الزيارة القصيرة التي قام بها وزير الخارجية السوداني للقاهرة، ولقاؤه بوزير الخارجية المصري كان الهدف منها إزالة -أو على الأقل التخفيف- من حدة التوتر الذي يسود العلاقة بين البلدين على المستوى الرسمي، والذي انتقل بالضرورة إلى المستوى الإعلامي. الصراع بين الخرطوم والقاهرة في عهد الإنقاذ يمكن أن يؤرخ له بمحاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية على أيدي معارضين مصريين قدم بعضهم إلى إثيوبيا من السودان، ورد الفعل المصري الغاضب آنذاك الذي ترجم عمليا باحتلال مصر لمثلث حلايب الحدودي المتنازع عليه بين البلدين، والذي ظل مستقرا في يد السودان منذ استقلاله إلى أن احتلته القوات المصرية بعد محاولة الاغتيال، وما زال يمثل مصدر نزاع كامنا ومرشحا للانفجار إذا ما ساءت العلاقات، وقد تناوله الإعلام المصري بصورة حادة مؤخرا لأنه اعتبره جزءا من الصراع السياسي الداخلي في مصر والعلاقة بين الإخوان المسلمين المصريين ونظام الإنقاذ في السودان، وتداعيات ذلك الموقف كانت وراء حدة الطرح الإعلامي المصري، الذي ينطلق من اتهام نظام الإخوان المسلمين السابق في مصر بالتهاون في حق مصر في المثلث، مجاملة للنظام الإسلامي في الخرطوم. زيارة وزير خارجية السودان، وقبلها زيارة وزير الدفاع السوداني، كان الهدف منهما تبليغ رسالة سودانية لمصر أن الخرطوم لا تنطلق في علاقتها الرسمية مع مصر من منبر تحالف سياسي مع أي قوة سياسية في مصر، وأنها تحرص على علاقة التعاون بين البلدين دون أن تتأثر بأية أوضاع سياسية في مصر لأنها تعتبر ذلك شأنا مصريا داخليا، ولكن مثل هذا التبرير كان يحتاج إلى سند عملي -وربما كانت هذه الرسائل قد جاءت متأخرة وأنها قد سبقتها ردود أفعال سودانية حول سد النهضة الإثيوبي أقنعت الجانب المصري أن السودان يتخذ مواقفه ضد مصر دعما للإخوان في مصر وليس لأي سبب آخر- مما رفع حدة التوتر، وقد اعترف وزير الخارجية السوداني في مؤتمره الصحافي المشترك مع رصيفه المصري بالتوتر الذي ساد في العلاقة بين البلدين في المرحلة السابقة والإصرار على وضع العلاقة في مستوى أفضل، وتفعيل قدرات التعاون بين البلدين وفاءً لعلاقات تاريخية متميزة. أزمة العلاقات المصرية السودانية أنها ظلت دائما طوال تاريخها الحديث أسيرة لطرح عاطفي يؤكد على (أزلية العلاقة وتاريخيتها) دون أن ينتقل بها إلى مستوى تبادل المنافع ورعاية المصالح المشتركة والدخول في مشاريع ثنائية وهو ما يتكرر اليوم، وحديث العواطف ما عاد يجدي ولا بد من الانتقال به إلى مستوى المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وتأسيسه على قواعد أكثر رسوخاً. وليست هذه هي المرحلة المناسبة للدخول في مشروع مستقبلي بعيد المدى من هذا النوع، إذ إن مصر تعيش في مرحلة انتقالية وحكومتها الحالية لن يكون عمرها أكثر من بضعة شهور، ريثما تنتخب مصر رئيسا جديدا، وترسي دعائم حكم جديد بدستور جديد وتعالج التحديات التي تواجهها في صراعها مع الإخوان المسلمين، والسودان يواجه أزمات داخلية متواصلة ومتصاعدة، وتستهلك كل طاقاته، ويطرح مشروع حوار جامع اعترافا بأن أزمته الداخلية بلغت ذروتها وأنها لا بد أن تفضي إلى تغيير شامل أيا كان أسلوب ذلك التغيير، فكلا البلدين يعيش ما يمكن أن نسميه مرحلة انتقالية مليئة بالتحديات ولا تسمح بالانخراط في مثل هذا المشروع الكبير لعلاقات جوار أكثر صحة وعافية. غير أن هناك قضايا عاجلة يمكن أن يتحرك الطرفان على أساسها في الوقت الراهن إزالة للاحتقان وتهيئة للأجواء، أولى القضايا ضرورة اعتراف مصر بأن حلايب منطقة حدودية متنازع عليها، ويجب أن تحسم عن طريق الحوار الذي يتأسس على قواعد القانون الدولي وليس بفرض الأمر الواقع بالقوة، فالسودان لن يتنازل عن حقه فيها، ومصر لن تتخلى عن موقفها بأنها جزء من أراضيها. ولذلك لن يحل هذا النزاع إلا بالتراضي عبر الحوار أو النزول عند حكم قرار تحكيم ملزم تتوفر له كل الضمانات القانونية. وغاية ما هو مطلوب في هذه المرحلة هو تهدئة اللعب وعدم تصعيد الخلاف إلى أن تتهيأ الأجواء لمعالجته جذريا. القضية الثانية هي قضية سد النهضة الإثيوبي، فمصر لها تخوفات حقيقية من تأثير ذلك السد على حصيلة ما يصلها من مياه النيل، وحق لها أن تتخوف، فمصر هبة النيل وهو مصدر حياتها، ولإثيوبيا التي ينبع منها النيل الأزرق أيضاً حق في استغلاله لمصلحتها، ولكن ذلك الاستغلال الإثيوبي يجب ألا يلحق ضررا بالغا بمصر، والسودان مهيأ لأن يلعب دورا توفيقيا وأن يسعى لإكمال الدراسات وإثبات الآثار الحقيقية لهذا السد على مصر والسودان، وحمايتهما بكل السبل من أي آثار سالبة، والدراسات الحالية لا تجيب عن هذه الأسئلة، والسودان لو وقف على الحياد بين الطرفين مؤهل للقيام بعمل توفيقي في هذا المجال لإكمال الدراسات بصورة علمية كاملة، لكنه أفسد مفهوم حيدته بتصريح متعجل بانحيازه التام للمشروع الإثيوبي بصورته الحالية، ولو نجحت هذه الزيارة في إحداث تغيير في موقف السودان بحيث يتخذ موقفا توفيقيا محايداً فإنه سيساعد كثيرا على تجاوز الأزمة. العلاقة المصرية السودانية الاستراتيجية بعيدة المدى، يجب أن تنتظر إلى أن تتهيأ الأجواء في البلدين لمناقشة مثل هذا المشروع، أما التعامل مع الواقع الحالي بأفضل وسائل التعاون المشترك المتاحة فهو غاية ما يمكن تحقيقه في ظل الظروف الراهنة!. محجوب محمد صالح كاتب سوداني [email protected] العرب