الشهرة، النجومية، حب الظهور.. ما الذي يترافق مع هذه الرغبات الإنسانية من أنماط حياة؟ في فيلم ‘أمديو مودلياني'، يرسم بيكاسو على منديل الطعام بأقل من دقيقة، صورة ساخرة لغريمه العابث مودلياني، ويقول للنادل: خذ هذه، وسأتكفل الليلة بحساب جميع الرواد. يطلب النادل من بيكاسو، أن يوقع على رسمته. يجيبه الفنان الكبير بغرور صادق: قلت لك حساب الليلة، فهذه الرسمة تفي بالغرض، إذا وقعتها لك فسوف تغطي ثمن المحل كله!! يصطحب بيكاسو غريمه مودلياني لمقابلة واحد من أكبر وأشهر فناني الانطباعية بالتاريخ، أوغستو رينوار، راغباً في أن يقول له: لا يكفي أن تكون مثاليا بالفن فلن تجني سوى الفقر مهما كانت موهبتك. عليك أن تعمل بقوانين السوق وتبقى رساما، فالكدح لم يُخلق للعباقرة، بل للشغيلة!! يسأل الفنان الفقير مودلياني رينوار: كم يكلف قصرك هذا؟ يرد رينوار: لوحتين على الأكثر. ولدي سيارتان واحدة منهما كلفتني اسكتشاً بقلم رصاص، أخذ مني أقل من خمس دقائق. والثانية رسمت على آنية زهور ليس بها زهور. ووقعتها باسمي. سيبدو الدخول إلى عالم الشهرة مثيراً لشهية الإنسان على مر التاريخ، تلك الرغبة الدفينة للمرء بالظهور والتباهي والاستقطاب والتمايز عن بني جنسه، وما يستتبعها من إرضاء للشهوات المصاحبة، كالرفاهية، والتأثير والقيادة. نعم التاريخ حافل بتلك القصص المبكية عن فنانين لم يبيعوا لوحة واحدة في حياتهم وعاشوا في العوز والفقر الشديد وتحولوا لاحقاً إلى أيقونات في الفن، تباع لوحاتهم بالملايين من الدولارات. ربما في عالم الفنون التشكيلية يستوجب على المرء امتلاك الحد الأدنى من الموهبة، والخبرة ليغدو فنانا. ولكن المعاصرة ومع اختراع السينما، والتلفزيون وصولاً لوسائل الاتصال الحديثة، غدت صناعة المشاهير مهنة، تدر أرباحا على الصانع، وتدر كوارث على الجمهور والمصنوع! ما بعد الشهرة يسخر الكوميديان الأمريكي فريد آلن من الشهرة قائلاً: ‘الشخص المشهور هو من يعمل بجد طوال حياته لكي يصبح معروفا، وبعد ذلك يلبس نظارة سوداء لكي يتفادى أن يتعرف عليه أحد'. في اللقاءات مع المشاهير، تبدو الحسرة واضحة على معالمهم حين يتذكرون بداياتهم، ويوضعون بمواجهة صورهم القديمة، وحين يسألون عن الثمن المناسب للشهرة، هل يتناسب مع ما هم فيه. والأهم حين يسألون إذا كانوا يتمنون لأولادهم حياةً مشابهة. غالبا ما تنتهك خصوصية المشاهير، ابتداءً من أبسط حقوقهم بالحياة بأن يكونوا بشراً عاديين يتسوقون، يستلقون على الشاطىء يقودون سيارتهم في الطريق العام، أو يرتكبون حماقات يومية لا توضع في عناوين الصحف في صباح اليوم التالي. لكن صناعة الشهرة واكبها كم هائل من الصناعات الأخرى، الصحافة الصفراء الباباراتزي، برامج التلفزيون، التي تتناول الإشاعات، موضة النجوم من تسريحات وأصباغ وماركات عالمية وإعلانات. صخب وضجيج، انتهاك دائم، والويل للنجم الذي يعبس أو يكشر أو يشتم، أو يطفح به الكيل. فكل سلوك يقدم عليه من استمات ليكون نجماً، هو بحد ذاته مادة دسمة للأفواه الجائعة للوك، والبرامج التلفزيونية. ‘إنسايدر'.. أخلاقيات العمل التلفزيوني في عام 1999 عرض فيلم بعنوان إنسايدر، من الداخل، للمخرج ميشيل مانن بطولة آل باتشينو وراسل كرو. فيلم يفترض أن يدرس في مدارس الإعلام، عن أخلاقيات العمل التلفزيوني، وماذا يعني أن تكون صانعاً للحدث الإعلامي لا مردداً له. يتناول الفيلم، قصة واقعية حدثت في البرنامج الأمريكي الشهير 60 دقيقة، حول المهنية الصحافية وحرية الإعلام، وماذا تعني كلمة الإعلامي الحر. يحاول المنتج ويل بيجرمان، الذي لعب دوره آل باتشينو أن يحمي أحد مصادره، أخصائي الكمياء د. جيفري ياكان الذي لعب دوره راسل كرو، الذي تم فصله من شركة تبغ عالمية ووقع على وثيقة السرية بعدم الحديث عن طريقة عمل شركات التبغ والمكونات السمّية التي تؤدي للإدمان، قضية شغلت الرأي العام الأمريكي، وتصدى لها البرنامج الشهير 60 دقيقة. ولكن بيرجمان يتفاجأ بأن المحطة تخضع لضغوط شركات التبغ وتمنع بث الحلقة، مما يعرض مصداقية المنتج الإعلامي ومصداقية البرنامج الشهير للاهتزاز. نرى فيها جيفري ويل يكشف حقائق العمل الإعلامي ولا يخضع للابتزاز ويفضح ما حدث، وينتصر أخيراً وتعرض الحلقة وتتم التسوية. وبعد هذا يقدم استقالته من المحطة، وحين يسأله مدير المحطة، لقد تم الأمر كما أردت لماذا تستقيل. أجابه: ‘هل تريديني أن أقول للضيف القادم (ربما أستطيع حمايتك). صحافي يستقيل لأنه يعرف إن هذه الربما هي التي ستقتل الحقيقة عاجلاً أم آجلاً. بعد هذا الفيلم بسنوات خرج برنامج بنفس الاسم. يسمى ‘إنسايدر'، يقتات بشره على أخبار كبار النجوم، من تطلق ومن خان، من فعلت فعلتها بتخريب وجهها بالتجميل ومن ارتدت أبشع الفساتين في الحفلات الخرافية للنجوم. كيف كان شكل النجم في المدرسة الثانوية بجسر تقويم الأسنان وحب الشباب يغزو وجهه! يكفي أن نقول إنه موسم بعد آخر انشغل بالمدعوة إيرانية الأصل نادية سليمان، التي أنجبت ثمانية توائم بطريقة التلقيح الصناعي، بعد أن كان لديها ثمانية توائم آخرين، كما اعتاش البرنامج لفترة طويلة على فضائح بريتني سبيرز وطلاقها وحلاقة شعرها ومشاكلها مع طليقها حتى أن فريقه لاحق السيلولايت، الذي بدأ يظهر في مؤخرتها! وكرس زمنا طويلا في متابعة العارضة كيم كارداشيان من حجم أوراكها حتى رموشها الاصطناعية، منذ ظهورها في برنامج تلفزيون الواقع حتى أصبحت من أشهر مشاهير هوليوود. وزواجاتها وطلاقاتها وعشاقها وزلاتها وطول كعب حذائها. من دون أن تقدم أي عمل ذي قيمة في فن التمثيل. من الداخل برنامج سطحي الإعلام العربي استنسخ البرامج وطريقة تقديمها، صحيح أن برنامج ‘إنسايدر' يقدمه مذيعون محترفون مثل لارا سبنسر وبتقنية عالية من درجة الوضوح، ويعمل به فريق مخيف من التقنين، الذين يجعلون منه مادة جاذبة بتكرار الفقرات والإعلان عنها، لا بل قد يسحبونك وراءهم لعدة حلقات متتالية لتشويقك لمتابعة موضوع ما أو معرفة أسرار فضيحة، إلى أن تكتشف في النهاية أن الأمر لا يستحق، وأن الحكاية أسخف وأبيخ من أن تستغرق كل ذلك الوقت. المشكلة لا تكمن في أن الجمهور الأمريكي سطحي ولا في أن الجمهور العربي، الذي تجذبه أحيانا ذات الفراقيع والتهويلات والفضائح، إنه شيء يروي شره الشائعة، وثرثرة المدن الصاخبة، كل خبر مهما كان لونه ومعناه يزيد من لفظ الاسم، النجم، يجعله جاذبا في شباك التذاكر. حتى صار النجوم أنفسهم حين يشعرون بأن بريقهم بدأ يخبو يسارعون لاختلاق فضيحة أو يسربون عن أنفسهم شائعة لإستشارة عطف ونهم وفضول الجمهور واكتساب اللمعان من جديد. صناعة النجوم، صناعة الأبطال، لجعل الرأي العام مشدودا على قوس التحفز الناشب، كل سهامه تنتهي بان يمد يده على جيبه ويدفع. صناعة لجعل الفكر أقل والغريزية المهذبة السهلة القياد أقوى، فتسويق مؤخرة لبطلة عالمية، تتكفل بها شركات التجميل. تبدو بضاعة العرب ناجحة ولكن بمفردات تخص طريقتهم بالتفكير، يتكشف اليوم مثلا أن صناعة نجم في السياسية، وإعداد حاكم تاريخي، مفدى واسطوري اخر يتم على يد نخبة مهترئة من نجوم الإعلام. والمتابع للإعلام المصري الفضائي سيهوله هذا الكم من الاسفاف للترويج ‘لصاحب مصر الجديد' فالإعلام لم يتوان عن استخدام الخرافة والمنجمين، ومرض الإيدز لترويج السيد القادم المخلص والهادي والمهدي، الذي ظهر يوم مولده مرور نجم النسر الطائر. إعلاميون يسيئون أكثر مما يخدمون على كل بعيدا عن السياسية، تبدو برامج المنوعات، ومقابلات المشاهير و'السكوبات' الحامية، التي اختص بها الإعلام اللبناني، يدور في فلك مئة شخصية فنية تزيد أو تنقص أكثر أو أقل بقليل. هم الذين يستضافون مع نيشان مع طوني، ومع وفاء ..إلخ. وتروج الاشاعات ويرد عليها، وتشن معارك الحبر، ومع ظهور ‘اليوتويبات' جلبت معها التهديد والوعيد، كما فعلت مالكة مجلة ‘الجرس′ مع أحلام وغيرها. وتبدو مجلة ‘الجرس′ وصاحبتها من المؤثرات السريعة الفعالية في عالم اصفرار الاعلام والصحف والمجلات البرتقالية واليرقانية. يكفي أن تتصفح المجلة أو تشاهد مقابلة تلفزيوينة واحدة لمديرتها، حتى تعرف ماذا تعني الشهرة على الطريقة العربية. نضال الأحمدية، التي تعمل بجد على هذا النوع من الإعلام، لم تسلم هي في اخر صورة أثناء تشييع والدتها مما أسست له في ثقافة الصورة السطحية، حين توجهت مجموعة كبيرة من التعليقات، لانتقاد طلاء الاظافر الأسود اللميع، الذي ظهرت به وهي تبكي في جنازة والدتها، بدل من أن يقوم القوم بالدعاء بالرحمة لوالدة الإعلامية الأنيقة... رائعة الأظافر!! * كاتبة واعلامية سورية القدس