لا أدري هل يخاف عبد الوهاب الأفندي على ضياع وطن، أم موت نظام، أم الانتقام من أفراد حكموا وبغوا ونكلوا بالبشر، بالطبع ربما أتفق مع الكاتب في بعض من خواره، حتى وإن كان مجرد ناقل له كما فعل السامري، ومردد له فالبوق يحمل الغث والسمين، وناقل الكفر ليس بكافر، فما بالنا بمنطق لا أعتقد أن أحد يتناساه أو يغيبه، بل منطق يعرفه القاصي والداني، ولكن قبل مناقشته في جلسة على أضواء الشموع، وعلى أريكة القصر المطل على النيل، أو داخل مزرعة الرئيس التي تنساب من أعلاها لأسفلها عنب الدنيا، وربما تقدم خمرها الحلال ياقوتات الحرام، بزي الأفرنجة، دعنا أيها الأفندي لنقبل طرحك من حيث الشكل لا المضمون، ونسأل ما كتبته فوق السطور وليس أسفلها هل أنت مع رحيل النظام أم بقاءه بإصلاحات، ربما أعرف أن من يقرأ كلامك يوحي بالرحيل، لكن من يحلل حديثك يعرف أنك تريد البقاء للنظام، فماذا تقصد إذن وأنت تروج بما يلي نصه " النظام الحالي لم يأت إلى السلطة إلا لأن عناصر في الجيش والمجتمع كانت تتخوف من سيطرة الحركة الشعبية على السلطة في السودان"، فهل هذا يعني أن انقلاب 1989 لم يأت إلا لإنقاذ السودان من الهلاك، وأن الجيش الذي جأر بالشكوى من غياب الدعم، هو نفسه الذي قام للدفاع عن وطن من غياب الدعم، وهل يعني هذا أن البشير ورفاقه وقادة الجيش الانقلابيين هم وطنيون لأنهم انقلبوا على الحكومة الشرعية التي اختارها الأفندي ومحمد أحمد، ووقفوا صفوفا ليضعوا في رقبتها حمايتهم، لتأتي الدبابة لتقف وتقصف كل أحلام الشعب بأكمله، لأن الحكومة المنتخبة والشعب السوداني، أغبياء لأنهم لا يعرفون من يحميهم ومن يحافظ عليهم من الحركة الشعبية، لذا جاءوا على ظهر الدبابة لأنهم رسل الله من السماء لإنقاذ الوطن، أم أن الأفندي نسى أن الحركة الشعبية ذاتها التي جاء الإنقلابيون في الجيش لحماية الوطن منها، وصلت إلى الخرطوم بجرة قلم عبر اتفاقية نيفاشا وجلست في القصر، تتربع على عرش السلطة، أفلا يعني هذا أن رهان الإنقلابيين على الاستبسال ضد الحركة خطأ، فالحركة نجحت بالسلم ما لم تنجح فيه بالحرب ووصلت إلى مبتغاها في تقاسم الحكم في قلب الخرطوم، ثم الانفصال، مما يعني أن وهم الدفاع عن السودان بالوصاية لأن الشعب غبي وجاهل مآله زوال. ثم ماذا يعني يا أيها الأفندي ما تقول أن "فشل انتفاضة سبتمبر الماضي كان سببها نفس مشاعر الخوف من المجهول عند الكثيرين"، فعن أي مجهول تتحدث، لكن يبدو أنك تروج لما هو عكس التيار، لأن انتفاضة سبتمبر، وأحمد الله أنك استدركت وقلت أنها انتفاضة، لم تفشل، ولو لم تنجب إلا خطاب الوثبة من البشير في 27 يناير الماضي، لاعتبرت ناجحة بنسبة 100%، فالانتفاضات لا تفشل، لكنها ربما خفتت تكتيكيا لكنها نار تحت الرماد، ولا تنسى أن عناصر النظام صوبت النيران في مقتل، محاولة وأد الانتفاضة في مهدها، بالسلاح الحي، جهارا نهارا، صحيح أن الانتفاضات لا تخشى أحد، لكن الأصح أن انتفاضة بكر ليس لها رأس رمح، يجب أن لا نرجى منها ما هو أبعد من ذلك، فالبحارة مهما أتقنوا وأخلصوا في واجبهم، فلا تتوقع منهم في كل مرة الوصول للشاطئ، لأن الربان وحده هو القادر على ذلك، لأنه تدرب عليه، وفق قواعد "ترقب المخاطر" وهي نظرية درسها الأفندي تماما عندما كان يعلم النشء في حزبه وحركته المتأسلمة كيف يتوارون وكيف يقتلون وكيف يسيرون في الجنائز ثم كيف لا يحاكمون. والعجيب أن الأفندي يعرف جيدا أن الحقوق لا تسقط بالتقادم، لكنه يعتقد أن الحقوق على انقلابي 89 يجب أن لا تسقط فقط بل بالتقادم بل يجب أن تلغي وتنهي وينال هؤلاء الوسام الوطني من الدرجة الأولى، وتزين أعناقهم بعناقيد ورد بدلا من حبال المشنقة، لأنهم أخرجوا الوطن من ورطة بذهابهم وتخليهم طوعا عن الحكم، ونسى أن الشعب وحده هو القادر على أن يصفح أو يصفع، فاختلاف حرف واحد يفرق كثيرا، فلا أحزاب ولا غيره تستطيع أن تقول لا لشعب أراد عقاب حاكمه، كما قامت انتفاضة سوار الذهب انقلابا على حكم نميري، أو تقول لا لشعب أراد الخروج للترحيب واستقبال نفس الحاكم بعد سنوات من المنفى، إذن ما يحاول تمريره الأفندي من أن هذا الأمر يجب أن يحسم من البداية، ويجعل أي حوار خلاف ذلك مضيعة للوقت، أعتقد أنه ليس سوى تخوفات يمررها سادة النظام لتأمين هروبهم ببقائهم في الداخل، وفرارهم لأن العقوبة ستطالهم إن رحلوا إلى الخارج، لأنها لن تلغي بجرة قلم، لأن هناك شعوب حرة تراقب، فما بال هذا الأفندي يريد من شعب السودان الأبي أن يخضع للذل والهوان، سواء في انتزاع حقه أو في الانتقام ممن صفعوه غدرا وبهتانا، وما بال الأفندي أن يحاول أن يلغي من قاموس الحريات إرادة الشعب السوداني، ليرهنها في أحزاب يعرف مسبقا أنها ما عادت تمثل لا ربع ولا ثلث الشعب ناهيك عن 1/100 من أصل الشعب، وإن كنا لا نجرؤ أن نلغيها أو نتجاوزها لأنها متمرسة في العمل العام، وتعرف كيف تنفذ من شرايين الحياة، وتدير حركة البلاد، فليس حكمها يعد إجماعا ولا غيابها يعد نكرانا. أقول للأفندي أنا معك لأن الحريات التي لم يعرف الشعب السوداني حتى الآن انتزاعها على أرض الواقع، يجب أن نتفاوض بشأنها، لا لأن الشعب فشل في انتفاضته، بل لأن دماء الشعب أغلى من أن تراق سريعا في انتفاضة أخرى، فهم أمام وحوش لا تعرف الإنسانية، وما دام هناك عاقلين فمن باب أولى ما يتوقع أن يأتي بالحوار، يجب ألا نفرضه بمنطق العصا الذي نعرف أنه سيحققه لكن بعد سقوط ضحايا لا يعلم بعددهم إلا الله، وكما تربعت الحركة الشعبية على القصر يوم ما باتفاقية نيفاشا، فربما أفلحت اتفاقية "جهنم" - التي معيارها ليس إلا نارا- في أن يحكم الشعب نفسه، لمرة رابعة، قبل أن يتكرم الحكام بالتنازل وفرض العفو عنهم، فعن أي عفو تتحدث يا أفندي؟ أما إذا كان الأفندي يرى ما لم يره النظام، فهذه مصيبة، لأنني أعتقد أن النظام أصبح يرى بمنظار أوسع، لآلاف السنوات الضوئية، وإلا لما طرح الحوار من الأساس، فهو يرى أنه في زوال لا محالة، وسيحاسبه التاريخ عما اقترفه في حق الوطن. وإذا كان الأفندي يعتقد أنه يخشى على النظام أكثر من نفسه، ويرى في نفسه الجرأة على قول الواقع أكثر، فهل نصبوه محاميا ليجس نبض الشعب، فليعلم أن النظام أجرأ من أن يوكله محاميا عنه بهذه الصورة، وإذا كان يرى في نفسه جريئا للدرجة التي يتولى فيها قول ما لم تقله ولا تجرؤ على قوله الأحزاب، فصحيح أنه قال، لكن الأحزاب أيضا يمكنها أن تتجرأ وتقول، لكن من يسمعها وهي لا تستطيع الوصاية على الشعب الذي كشفها منذ الأول لانتفاضة سبتمبر . من هنا تصبح جرأة الأفندي التي يتوهمها جبنا لأنه لم يقل أي حقيقة، فلا عرفناه وسيطا ليقول ما يعرفه أطراف الحوار، ويدركه الشعب، وجبنا لأنه لم يقل للنظام ارحل وارتجي ما اقترفته يداك على مدى 25 عاما بقضاء يدرك الأفندي انه سيكون عادلا، لأنه قضاء الشعب الذي يفتخر أنه خرج من صلبه، وعندها ليبرأ النظام نفسه أو ينال عقوبة ما اقترفته يداه، وهنا أذكره ما حدث لرواندا مع فرنسا، بعد اتفاق دام لسنوات على إخفاء الحقائق، ونسيان الماضي، فهاهم اختلفوا من أجل شعب، فعن أي اتفاق تتحدث يمكن أن تمرره لتجس نبض شعب وطنك الذي يبدو أن ردهات لندن أنستك من هو.. عد لرشدك وقل الحق أو لتصمت، ليس إلا أن يرحل النظام غير مأسوف عليه، وتتشكل جهات شبابية تعرف كيف تحمي الأوطان، فكما أحسب أنهم انتظموا في انتفاضة سبتمبر وهم ليسوا أوصياء إلا على ضمائرهم، فما بالنا لو نالوا ثقة أخوانهم وأخواتهم. أقولها لك مجددا فشلتم ثلاث مرات يا أفندي مرة عندما قلتم أنكم أوصياء ومرة عندما ادعيتم أنكم شرفاء وثالثة عندما توهمتم بأنكم شجعان، فالشجاع لا يخشى السوط، وعلى قدر المكارم تأتي المكارم، والعكس صحيح.