يسمونه هنا «تنش أبآي» وهو بالفعل نهر صغير، لكنه يحمل خير الصبايا عندما يتثنى بين خضرة وتلال، بعد مخاض من بحيرة تانا، أعلى بحيرات أفريقيا، ثم يتسارع ليبدأ هديرا يصم الآذان لحظات انهماره شلالا يفوق الوصف، يتدلى وينسكب بصخب الحياة وفتوة الاندفاع، رذاذه يحاكي بياض أسنان إثيوبية تروي بابتسامتها ظمأ الأرض العاشقة. ويؤذن الشلال بميلاد النهر الخالد، مجتذبا زوار مدينة «بحر دار» شمال إثيوبيا، من الباحثين عن أيقونة الخلود وسط الطبيعة التي لم تمسسها يد بشر.. نعم فمن هنا ينبع النيل الأزرق في طريقه نحو مآله، عند فرعي رشيد ودمياط حيث البحر الأبيض المتوسط ليتحول من الحلاوة إلى الملح الأجاج. خلال رحلة لا تستغرق نصف ساعة من العاصمة أديس أبابا، تحط الطائرة في مطار تبدو في بساطته أناقة متعمدة، وابتسامات طواقم الضيافة لا تفارق محياهم، وعبر طريق مغطى بالخضرة يتهادى الطريق نحو البحيرة التي تأخذ شكل قلب الإنسان، ولون مياهها العكر يخبئ حلاوة الطعم وأسرار النيل، سليل الفراديس. يعود تاريخ بحيرة تانا، التي تضم 37 جزيرة، وفقا لنبيات يسورك المدير التنفيذي للشركة الوطنية للسياحة، إلى 14 مليون سنة، حيث تكونت نتيجة لتحولات بركانية وصعود حمم اللافا. وأشار ل «الشرق الأوسط» الى أن البحيرة التي تعد ثالث أكبر بحيرات القارة السمراء، وأعلاها عن سطح الأرض، تبلغ مساحتها تبلغ 3673 كيلومترا مربعا، يمتد عرضها على مساحة 65 كيلومترا شرقا وغربا، وطول 80 كيلومترا شمالا وجنوبا، فيما يبلغ ارتفاعها 1820 مترا، ومتوسط عمقها يصل إلى 9 كيلومترات. وللنيل عدد من المصادر المائية المغذية، وظل النهر الصغير (جلجل، تنش اباي) يمثل المصدر الرئيسي لمياه البحيرة، كما يمثل المصدر الرئيسي لمياه النيل الأزرق أحد أهم روافد النيل الكبير، الذي يمتد على مساحة 5600 كلم بدءا من هذا المكان عند مدينة بحر دار وحتى البحر الأبيض المتوسط بالقرب من مدينة الإسكندرية في مصر، 800 كلم من مساحة النهر تقع داخل الأراضي الإثيوبية، منها 400 كلم تتمدد وسط الأحراش والجروف الحادة والصخور البركانية العالية. ويحمل النيل الأزرق سنويا 48 مليار متر مكعب من المياه، 3.3 مليون متر مكعب تتبخر منه في أراض يقطنها نحو 120 ألف نسمة داخل الأراضي الإثيوبية، يزحف متعرجا كثعبان ضخم على مساحة مسطحة لمسافة 32 كلم متجها نحو الأسفل شمالا عقب مغادرته بحيرة تانا. وعند منطقة الشلال على مشارف مدينة بحر دار، يرمي النهر بنفسه على جرف حاد غير عابئ بالارتفاع البالغ 45 مترا وعرض 400 متر في أكثر الشلالات المائية الطبيعية في العالم إثارة للدهشة والتأمل، فالطبيعة هناك لا تزال بتولا تحتفظ بأسرار الماضي. وتجتذب أصوات المياه المنهمرة من عل الكثير من السياح الباحثين عن غرائب الطيور والأشجار العطرية التي تلف المكان بعبق يتناغم مع وشوشة الشلال. مدينة بحر دار، التي تمثل الجسد لقلب البحيرة، تبعد عن شمال شرقي العاصمة اديس ابابا بنحو 585 كلم انشأت منذ عهود قديمة، وأعاد إحيائها على الطراز الحديث الإمبراطور هيلاسيلاسي في العام 1950، حيث بنى فيها قصرا منيفا اتخذه كمصيف. وتمثل المدينة العاصمة السياسية لإقليم الامهرا بعدد سكان يتجاوز 200 ألف نسمة يتحدث أهلها الامهرية والانجليزية والعربية. اكبر جزيرتين داخل بحيرة تانا تضمان تاريخا تليدا يعود إلى اعماق سحيقة في التاريخ، يتمثلان في جزيرتين للرهبان، احداهما للنساء الراهبات، يختفين تماما عن أعين الزوار، فيما الاخرى مخصصة للرهبان الرجال، ولا تفصل بين الجزيرتين سوى امتار قليلة، ولا يزال القائمون عليهما يحرصون على عدم دخول الحداثة اليهما، ويلحظ الزائر أن الادوات المستخدمة والطرق الصاعدة إلى الاديرة تتحدث عن حقب وحضارات سادت المكان، وتبدو محاولات الاستمساك بالارث في كل شيء داخل الجزيرتين. ويشرح الدكتور سلمون على المسؤول في وزارة السياحة الاثيوبية، أن تاريخ الديرين في الجزر يعود إلى القرن التاسع الميلادي، عند دخول المسيحية إلى الحبشة بواسطة منليك الأول ملك إثيوبيا، والذي تعتقد الأساطير المحلية هناك إلى ان ابني للملك سليمان وملكة سبأ بلقيس ويطلق عليها هنا اسم (ماكيدا) ويعتبرونها تنتمي إلى إحدى قومياتهم وفقا للأسطورة المحلية. وتم جلب مسلة اكسوم الشهيرة أولا إلى بحر دار ووضعت في جزيرة صغيرة داخل بحيرة تانا تسمى «تانا كيركس» قبل ان تنقل إلى اكسوم. أديس أبابا: كمال إدريس