عبد القادر محمد أحمد المحامى شكلت ملابسات القرار الذى أصدره السيد رئيس الجمهورية بقبول استقالة السيد رئيس المحكمة الدستورية حالة صدمة للناس " فى تقدير البعض أنها اقالة لا استقالة " ، وأصبح الموضوع هو حديث المجالس والعناوين الرئيسية والجانبية للصحف , كتاب الأعمدة الراتبة بدورهم تباروا فى الادلاء بدلوهم ، الأستاذ ضياء الدين بلال يرى (.... اشتراك قاضى المحكمة الدستورية فى مثل هذه المنازعات ذات العوائد المليارية والتى لها أبعاد جنائية خاضعة للتقاضى أمر غير مستساغ أخلاقيا ولا عرفيا ). الأستاذ محمد وداعه يقول ( ما حدث يدعو للأسف والاحباط ويثير الشكوك والبلبلة حول مصداقية الأعمال التى أنجزتها المحكمة الدستورية تحت قيادة رئيسها السابق وما حدث يدعو الى النظر بجدية لموضوع الفساد والضالعين فيه من المسؤلين السابقين أو الحاليين..). أما فى الوسط القانونى فيقول مولانا سيف الدولة حمدناالله (المشكلة...لاتقف عند حدود ان رئيس المحكمة الدستورية قد خالف مقتضيات وظيفته ...هذه الحادثة تقرع الأجراس وتكشف عن انهيار النظام القضائى الذى نقول به وينكره النظام ، وهى حادثة تجعل من اللآزم اخضاع جميع القائمين بأمر العدالة لفحص "فيش وتشبيه"...) . مولانا عمر عبد الله الشيخ يقول ( مولانا عبد الله أحمد عبد الله لم يتجاوز القانون ولا العرف القانونى فى رئاسته لهيئة التحكيم وكثير من القضاة وقضاة المحكمة العليا فعلوا نفس الشيئ من قبل ) من جانبى أرى أن اهتمام الناس بتقييم أداء وسلوك الشخصيات العامه أمر ايجابى ومطلوب ، لكن طالما كان هذا الموضوع برمته قيد النظر أمام القضاء يبقى الأفضل ان يكون التقييم بعد سماع رأي القضاء ، الذى بدوره يمكن ان يكون محلا للمناولة . غير أن السؤال الذى يطرح نفسه ما هو الجديد فى المسألة ؟ لقد سبق وأن أطاح السيد رئيس الجمهورية بأكثر من وزير عدل وأكثر من رئيس قضاء لأمور تتعلق بالعدالة والنزاهة والأمانة ، ولم يعرها الناس مثل هذا الاهتمام الذى يحدث الآن ! لقد أتت الانقاذ الى السلطة بقوة السلاح وأكثر ما يقلقها أن القضاء السودانى ومنذ فجر تاريخه الوطنى يقف سدا منيعا فى وجه الأنظمة الشمولية حماية لحقوق الناس وحرياتهم ، ولذلك عمدت الانقاذ الى كسر شوكة القضاء وأوكلت المهمة للجلالين وقد قاما بالدور بكفاءة واقتدار تنكيلا وتشريدا وترغيبا وترهيبا بالقضاة الى أن أصبحت السلطة القضائية اداة من أدوات النظام فى فى وأد سيادة حكم القانون ، الا أن الرجلين ، عفى الله عنهما، أصيبا بالبطر والعنجهية ثم أصابهما ما أصاب الناس من فساد الذمم فى عهد الانقاذ فمضيا فى استباحة القضاء لأكثر مما طلب النظام ، وبالتالى أصيبت القضائية بالقعود حتى فى التصدى لدورها الذى لا يمس أمن النظام فى شيئ ، ثم فاحت منها وبنفاذ شديد رائحة الفساد الادارى والعدلى والمالى . " للأسف هذا ليس تطاولا لكنها حقيقة يسألنا الله عنها." بالتأكيد لم تكن المرحلة المتأخرة التى وصل اليها القضاء والرائحة التى فاحت منه ، أمرا مطلوبا لدى النظام خاصة فى جهاز حساس كالقضاء لما فى ذلك من مردود سلبى على النظام نفسه ، وبالفعل تمثل ذلك فى تقرير لجنة التحقيق الدولية الخاصة بجرائم دارفور والذى وصف القضاء السودانى بأنه غير راغب وغير قادر على تحقيق العدالة ، كما تمثل ذلك فى ملاحظات المستثمرين الأجانب حول العدالة فى السودان . محليا أصبحت المظالم والشكاوى الخاصة من سلوكيات الجلالين تقرع آذان القصر وبشدة ، وكذلك استقالات القضاة المدنيين ، خاصة قضاة المحكمة العليا الذين أصبح العدد المتبقى منهم الآن لا يتجاوز أصابع اليد الوأحدة . اننا نقدر اهتمام السيد رئيس الجمهورية بالسلطة القضائية وبعموم الأجهزة العدلية وعلى رأسها المحكمة الدستورية ، وان جاء ذلك متأخرا جدا ، وهذا الاهتمام نلمسه فى تواتر قرارات العزل والتعيين ، بحثا عن شخص تكمن فيه مواصفات الشجاعة والعدالة والأمانة والنزاهة ، ليقوم بدور المصلح ، لكن السلطة فى ذات الوقت تبحث عن شخص يكون مرنا ومتجاوبا فى الأمور التى تمس أمر النظام !! مع أكيد الأحترام هذه معادلة مستحيلة ، ووجه الاستحالة يكمن فى أنه لا يمكن أن تأتى بشخص تكون مهمته تحجيم دور المحكمة الدستورية أو السلطة القضائية الى المدى الذى لا يمس أمن النظام ، فينجح فى القيام بهذا الدور المخالف لواجبات الوظيفة ومقتضياتها ، وفى ذات الوقت تطلب منه أن يكون متشربا بقيم الشجاعة والعدالة والنزاهة والشفافية !! حتما هذه تهزم تلك أو تلك تهزم هذه . والدليل على ذلك أن البطر قد وصل بأحدهم الى حد قوله على مرأى ومسمع ، أنه نجح فى أن يفعل بالقضاء كل ما طلبته منه السلطة ولم يبقى له الا أن يتفرغ لتسخير القضاء لمصلحته الشخصية ، وقد كان له ما أراد . أما الآخر فقد أصابه التضخم الذاتى فاتخذ من السلطة القضائية امبراطورية خاصة تناطح وتنافس القصر الجمهورى ، وأصبح لسان حاله يقول " ما فى زول يقدر يشيلنى " ، وقد صدق فى ذلك حيث لا يزال يدير القضائية " من منازلهم " متحديا كل محاولات السلطة فى الأصلاح .!! اننا نتوجس كثيرا حول وجود رغبة حقيقية للنظام فى نهوض حقيقى بالأجهزة العدلية ، غير أنه وفى ظل دعوة السلطة الناس للحوار والحراك الذى عم الساحة حول الاصلاح السياسى والمجتمعى الشامل ، نرى أن مصداقية هذا الطرح تكمن فى المبادرة باعادة ترتيب أوضاع الأجهزة العدلية ، بما يعيد لها هيبتها واستقلالها ، لتقوم بدورها الطبيعى فى تطبيق سيادة حكم القانون ، حماية للسلطة فى مواجهة الأفراد ، وحماية للأفراد فى مواجهة السلطة ، ولتبقى المرجعية الأساسية فى خطوات الأصلاح والتصالح المنشود . متخذين من هذه الفقرة مدخلا لما تبقى من حديث ، وبالنظر الى حديث المدينة حول اتجاه السلطة الى تعيين رئيس قضاء جديد بديلا عن الحالى ، رغبة منها فى اصلاح قضائى حقيقى ، فاننا نقول الآتى :- مولانا محمد أحمد أبو سن يعد من أكثر القضاة نزاهة وكفاءة فى اداءه المهنى ، وان كان لا شأن له بمسائل الادارة ومنعرجاتها ومتطلباتها فهذا لا يعيبه فى شيئ ، فليس مطلوب من الانسان ان يكون شاملا ، لكننا نعيب عليه قبوله للمنصب . مولانا أبو سن لم يوفق فى احداث أي اصلاح فى مرفق القضاء ليس لعدم امتلاكه لمطلوبات الادارة فحسب ، وانما لأن هناك مراكز قوى داخل السلطة القضائية وبحكم ولا ئها السياسى والتنظيمى ، أعطت نفسها حق الحديث باسم التنظيم الحاكم ، وهى ترفع شعار " اذا ذهب جلال فكلنا جلال " ، لذلك عمدت على تكريس كافة الأوضاع فى عهد أبو سن ، بل مضت الأمور نحو الأسوأ ، فاذا كان جلال رجلا اداريا قابضا ، فى عهد أبو سن تفككت دولة القضائية الى عدة دويلات مستقلة وأعطت نفسها الحق فى ان تفعل ما تشاء . الآن وفى ظل الحديث عن اصلاح حقيقى فاننا نرى ان منصبي رئيس القضاء ورئيس المحكمة الدستورية يجب ان لا يخضعا للمجاملة والترضيات والجوانب الاجتماعية التى تتجنب الدخول فى الحرج ولو على حساب المصلحة العامة ، فهذه من أكبر عيوب الشخصية السودانية . يجب التأنى والتقصى وان تنحصر المطلوبات فقط فى الشجاعة والعدالة والنزاهة والشفافية . أما ان كان حديث المدينة قد استقر على ما رشح من بديل ، فاننا لا نملك الا ان نحسن الظن ونبادر بالتهانى والتمنيات بالتوفيق للقادم الجديد وليكن هذا المقال مكتوبنا اليه و نتمنى ان لا يأتى اليوم الذى نلومه فيه على قبول المنصب . أخيرا كامل تقديرنا للجميع وتأكيد أننا لا نهدف الا لخير هذا البلد وصلاحه. عبد القادر محمد أحمد المحامى