منذ توليهم السلطة بانقلاب عسكري قبل خمسة وعشرين عاما، تقلب «إسلاميو» السودان في مواقفهم وسياساتهم، نقضوا العهود وحنثوا بالوعود، مبررين كل مناوراتهم وخطواتهم وتصرفاتهم مهما ابتعدت عن روح الإسلام وسماحة أهل السودان، بالقول إن «الضرورات تبيح المحظورات»، وما أكثر ما ارتكبوا من محظورات. إلا أنهم في كل تقلباتهم ظلوا ثابتين على مبدأ واحد لم يحيدوا عنه أبدا، هو التشبث بالسلطة بأي ثمن، لذلك جعلوا القمع والمكر والخداع سياستهم الرسمية. محضر اجتماعات القيادات السياسية والعسكرية والأمنية السودانية الذي جرى تسريبه أخيرا لم يكن صادما إلا للذين أقنعوا أنفسهم بأن النظام يمكن أن يتغير، أما للأغلبية الغالبة التي خبرت النظام فإن الأمر كان «تحصيل حاصل». فالاجتماع، الذي شاركت فيه شخصيات من أهم أركان الحكم، دار كله تقريبا حول كيفية استخدام سياسة التضليل في الداخل والخارج، مع دول شقيقة وصديقة، ومع أطراف المعارضة في الداخل. كشفوا عن أن الدعوة لحوار وطني، التي أطلقها الرئيس عمر البشير، ليست سوى مناورة لتشتيت الخصوم وإرباك حساباتهم واستخدامهم كديكور لتجميل وجه النظام قبل الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة العام المقبل. فنظام الجبهة الإسلامية، أو الحركة الإسلامية كما صارت تسمي نفسها، ليس في وارد التنازل عن السلطة لأحد، وكل همه هو تأمين نفسه أمنيا، والاستعداد لمواجهة أي احتجاجات أو مظاهرات بقوة السلاح، وإشغال المعارضة بحوار «بيزنطي» يدور في حلقة مفرغة. أما الانتخابات المقبلة فالنظام لا يراها سوى مسرحية يمدد من خلالها حكمه لخمس سنوات أخرى، دور المعارضة فيها هو تجميل الديكور وإعطاء النتيجة المحسومة سلفا «صبغة شرعية». هذه الرؤية للانتخابات ولدور المعارضة ليست محض تحليل واجتهاد، بل هي السياسة الرسمية للنظام، حسب ما أكده المشاركون في الاجتماع المذكور، ولم يعترض عليها أحد منهم وفقا للمحضر المسرب. فالمجتمعون حسب أقوالهم لا يرون أنفسهم مضطرين لتقديم تنازلات لمعارضة يرون أنه لا وجود لكثير من أطرافها الحزبية «إلا في النت». أما بالنسبة للحركات المسلحة فإن النظام يريد تشتيتها ومستعد لشراء بعض أطرافها بالمال إن أمكن، وبجر آخرين للدخول في حوار ومساومات منفردة. الوجه الآخر للاستراتيجية الرسمية هو تصعيد العمليات العسكرية في مناطق دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، واستخدام سياسة التجويع كسلاح في الحرب بمنع الناس من الحصاد وعرقلة الزراعة، حسب ما ورد في محضر الاجتماع المذكور. السلاح لن يكون مخصصا لمواجهة المقاتلين في مناطق النزاع، بل أيضا لمواجهة المتظاهرين العزل الذين يخرجون للاحتجاج ضد النظام وسياساته، حسب أقوال المسؤولين عن أمن نظام الحركة الإسلامية. فقد ورد في محضر الاجتماع تأكيد بأن التعليمات الصادرة هي ضرب أي مظاهرة أو تجمع بالنار لمنع أي احتجاجات خصوصا في فترة الانتخابات. أحدهم تباهى بأن النظام استطاع وقف المظاهرات الاحتجاجية الواسعة التي واجهها في الخرطوم ومدن أخرى بالبلاد في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، متصديا لها بالرصاص مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى. إذا كانت هذه هي استراتيجية النظام فما هي سياسة المعارضة وأهدافها من الانخراط في الحوار الذي دعا إليه النظام؟ المعارضة، أو فلنقل شريحة معتبرة منها، أقنعت نفسها بأنها ستراوغ النظام وستنجح في تفكيكه من خلال حواره الذي دعا إليه، وذلك بالإصرار على مطلب تشكيل حكومة انتقالية تعد لمؤتمر دستوري، تراه خطوة لتغيير تركيبة الدولة والحكم. لكن هذه لا تعدو أن تكون أحلاما وأوهاما، لأن خطط المعارضة مكشوفة ومعلنة من خلال تصريحات قادتها، والنظام حينما يدعو للحوار فإنه يلعب مع المعارضة لعبتها لكن بحساباته الخاصة وعنوانها الرئيس المناورة وكسب الوقت إلى حين موعد انتخابات معروفة النتائج سلفا، ودور المعارضة فيها لن يتعدى دور «المحلل» لخمس سنوات أخرى من «حكم الإنقاذ». الحقيقة أن المعارضة الحزبية والفئوية ضعيفة، وضعفها وتمزقها هو الذي جعل نظام الحركة الإسلامية يتمكن وتصبح فترته هي الأطول في تاريخ السودان الحديث، لذلك تتمسك اليوم بقشة الحوار وتحاول إقناع نفسها بأنها تستطيع بذلك إزالة النظام بتفكيكه من الداخل. هذا الكلام يطرب النظام الذي نجح بألاعيبه ومناوراته في تفتيت المعارضة بل واختراقها بحركات سياسية خارجة من رحمه، باستراتيجية هدفها أن تكون الحركة الإسلامية هي الحكم والمعارضة في آن. الوثيقة المسربة ربما لا تقدم أسرارا لا يعرفها جل الناس عن نظام أثبت أنه يمكن أن يفعل أي شيء من أجل التشبث بالسلطة، لكنها حتما تمثل إحراجا للمعارضة التي إن مضت في الحوار فمعنى ذلك قبولها بدور «المحلل» و«الديكور»، وإن نفضت يدها عنه فعليها أن تقدم رؤية واضحة تقنع بها الشارع المتململ من الأوضاع.. ومن الحكم والمعارضة. الشرق الاوسط