إن إدراك الجنس الأدبي بشكل عام، والإنتاج من خلال منطقه، يعد مسألة ثقافية، تختلف من ثقافة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر. فالجنس الأدبي هو مؤسسة كباقي المؤسسات، لها منطق المعاملات والإجراءات التي تدفع باتجاه أن تجعل خطاب الأدب منسجما من حيث ترابط طبيعته بوظيفته. يقودنا هذا التخريج إلى التذكير بأن طبيعة الأدب (الرواية باعتبارها عملا أدبيا) ينبغي أن تترابط وتتواشج مع وظيفته، لكي تشكل مبدأ الانسجام. يبقى مفهوم الانسجام له علاقة بقيم مجتمع، ورهانات ثقافة وأفق حضارة. والرواية تتغذى من التحولات التي يعرفها الإنسان في علاقته بذاته، وبالعالم من حوله. وفي الوقت نفسه تصبح شكلا من أشكال التفكير في هذه العلاقة. لا يمثل الشكل الروائي كل شيء، وإنما الشكل على حد تعبير دوريت كوهن، صاحبة كتاب «الشفافية الداخلية: صيغ تشخيص الحياة النفسية في الرواية» (1981) في أحد حواراتها، هو علامة، ويبقى السياق وحده المؤهل لتحديد النتائج. إذا كان كل عمل أدبي ينتمي بالضرورة إلى جنس، يحدد ميثاق قراءته، فإن التطورات التي تلحق تركيبة المتخيل الروائي، تغير مواثيق القراءة، وتؤشر من ثمة، على تحول في العلاقة بين النص والقارئ، وأيضا في الوعي الأجناسي. ولهذا، فإن وصف النص الأدبي، وطبيعة متغيراته، تعني وصفا للجنس الأدبي على حد تعبير تودوروف. من هذا المنطلق، نلاحظ حركية بنيوية تحدث بمنطق الجنس الروائي في المشهد العربي. وهي حركية ذات علاقة بالمتغيرات التي تلحق الحالة الروائية، باعتبارها حالة تتعايش مع المستجدات السياقية (المجتمع، نظام القيم، اختلاف الوسائط، أسئلة الراهن...)، وما ينعكس على ذلك من تبدل يحدث في نظام وظائف نظام الرواية، ومن ثمة، في الرؤية للعالم. إنه تحول بدأ في مظاهره الأولى مع العقد الأخير من القرن العشرين، ثم انفتح على تعددية في التجارب المتنوعة مع القرن الواحد والعشرين. انعكس هذا التحول على طبيعة تلقي النص الروائي، بين رأي رافض لهذه التجارب، باعتبارها غير وفية للمنطق المألوف للرواية، ومن ثم تسجيل موقف ضد هذا الشكل من السرد الروائي، ورأي يقبل به، بدافع التساؤل حول هذه الصيغة المختلفة في بناء النص، أو برغبة في تطوير العلاقة مع الكتابة السردية الجديدة، لذلك، بتنا نلاحظ دخول تعبيرات إلى مجال النقد/القراءة تعتمد إصدار أحكام، إما مع النص، أو ضده، مما يؤثر على منطق التحليل والتفكيك. وأحيانا نلتقي بتناقضات صارخة حول النص نفسه. وهي تحولات نقرأها بذاكرتنا الروائية التي جعلتنا نختزن مفهوما معينا حول الجنس الروائي في علاقته بنظام الحكي.. حتى حدث لنا شبه اطمئنان لذلك النظام الذي يفعل في الوعي النقدي، على أساس أنه هو الذي يحدد معنى الرواية، كما ولَّد ذلك الوعي النقدي إدراكا معينا للنص الروائي، أنتج طريقة في التحليل والمقاربة، وانعكس بالتالي على نظرية الرواية ومفهومي الأدب والنقد. تتعلق هذه التحولات بمظهر الانزياح عن النظام المألوف للكتابة الروائية، وهو الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن أحقية انتمائها إلى جنس الرواية. لما أصابها من انزياح عما ألفته الذائقة وأيضا القراءة النقدية من منطلق يحدد الرواية باعتبارها جنسا روائيا. يفترض هذا الوضع ضرورة التأمل فيه، والتساؤل حول انتشاره على مستوى التواصل مع النص، لكونه يؤشر إلى وضعية النقد أكثر من وضعية الكتابة الأدبية، والتساؤل حول قدرة النقد في حسن تعبيد الطريق أمام تلقي التجارب السردية المختلفة، ومدى انشغال النقد بأسس معرفية ومنهجية بعلاقة المتلقي بتجربة السرد الجديد، ومدى تطوير النقد لآلياته ومناهجه، لكي يكون مرافقا لتجربة التحول السردي. من بين مظاهر هذه التحولات، التي باتت تؤسس السرد العربي راهنا، وتأتي إما شكلا قائم الذات، أو تحضر باعتبارها طريقة في الكتابة داخل الجنس الروائي، نذكر هنا، ما يصطلح عليه ب»المحكي الذاتي»، الذي بات يُحدد نصوصا كثيرة، إما باعتباره تقنية نصية، أو نوعا سرديا، والذي يعد مظهرا من مظاهر التجلي الروائي وتطوره، فيه تصبح الذات موضوعا للسرد، حاكية ومحكية، والشكل السردي الذي يحتضن هذا الحكي يتخذ شكل المونولوج، بدخول الذات في الرواية، يتحوّل الحدث إلى حالة. يُحدث دخول الذات لُبسا في البداية، ويتحول اللبس بعد ذلك، إلى محطة للتفكير في علاقة هذه الذات بالمرجعية الخارجية للنص. وهو وضع يُرجع مفهوم التخييل إلى النقاش من حيث تحديده وتعريفه. لا نعني بدخول الذات إلى النص، وتحقيق ما يسمى بتذويت السرد، توفر نسبة من التطابق بين المؤلف باعتباره لحظة مادية ملموسة، والشخصية التي قد تأتي صريحة كاشفة لمرجعية المؤلف من اسم علم وشرط تاريخي والسارد مع اعتماد المرجعية الواقعية في عملية الإسناد التخييلي، وإنما طبيعة المحكي الذاتي تطرح النقيض، من خلال اعتماد المرجعية التخييلية باعتبارها سندا لتشخيص/إدراك الحالة الواقعية. يحدث هنا، عكس ما كان مع السرد الروائي المألوف، الذي اعتمد على صيغة «الإيهام بواقعية ما يحكى»، في المحكي الذاتي نلتقي بصيغة جديدة وهي «الإيهام بتخييل الواقعي». تكون نسبة الواقعي مكشوفة، ليس باعتبارها مادة مرجعية لفيض الحكي، وإنما لكون حضورها يدخل عنصرا تكوينيا في النص. وهنا بلاغة المحكي الذاتي، إذ، نشعر بالواقعي عنصرا محكيا.. لكن النص ينجح في الإيهام بتخييل الواقعي، ولعل هذا هو عنصر التغيير السردي. ونذكر من بين النصوص التي تعتمد تحققا نصيا للمحكي الذاتي، حتى إن جاءت على تجنيس «الرواية»، «امرأة من ماء» للروائي المغربي عز الدين التازي، الذي ينطلق الحكي فيه من إحساس الذات بالفراغ الوجودي، والذي يدفع باتجاه البحث عن معنى وجود الذات الحاضرة بمؤشراتها المادية. كما ينطلق الحكي في «سيدة المقام» للروائي الجزائري واسيني الأعرج، من عنصر الموت، موت مريم، الذي يدفع بالذات إلى التساؤل عن حالة شعب ومن ثمة عن معنى وجود الذات في شرط غير مفهوم. أما في «القلق السري» للروائية البحرينية فوزية رشيد فإن المحكي الذاتي يحضر ليس باعتباره تحققا نصيا، ولكن باعتباره صيغة في الكتابة والحكي، وهي صيغة تؤثر في المعرفة التي يمكن إنتاجها من النص. في هذه الرواية يتشكل محور البحث عن معنى وجود الذات الأنثوية. في «امرأة من ماء» هناك سفر في الذاكرة. ذاكرة المدينة /طنجة، وأيضا ذاكرة السارد رفقة زوجته. في «سيدة المقام» هناك سفر بعد أن أعلن الموت شرطه. أما في رواية فوزية رشيد، فإن السفر في الذات النسائية يتم عبر شرط النص التراثي. في النصوص الثلاثة وغيرها سنلاحظ، هيمنة البعد المونولوجي، وانعكاسه على طبيعة اللغة التي تتغذى من مستويات الحالة عوض سرد الحدث. ما يجعلها تأتي مشبعة بالنحيب الذاتي، وبالتوغل في الأجواء الداخلية للذات. فهي تعيش معجمها وتركيب مقاطعها السردية بإيقاع الحالة، التي تعيشها الذات في علاقتها بماضيها وذاكرتها. إن انبثاق الذات باعتبارها موضوعا محوريا للمحكي الذاتي، يفتت – سرديا – المنظومة الذهنية في الثقافة العربية، التي جعلت الذات غير منظور إليها إلا في إطار الكل أو الجماعة أو العشيرة. لا تعد صيغة المحكي الذاتي مجرد تقنية نصية، أو عبارة عن نوع سردي، يزاحم ما تبقى من الأنواع الأدبية، ويسمح بانخراط السرد في وجدان الفرد، ويعمل على تُعميق تذويت النص الروائي، ولكنه، عبارة عن رؤية معرفية وثقافية، تعيد توجيه النقد نحو البحث عن جوهر الإنسان انطلاقا من الحالة. تعود الرواية مع المحكي الذاتي إلى الانخراط بشكل جديد ومغاير في انشغالات الفرد اليومية، بعدما انشغلت بما تم اعتباره قضايا كبرى تخض الإيديولوجية ونظام القيم والسياسة. كما تسمح للروائي بأن يُحول ذاته إلى سؤال وموضوع، تقترب الرواية مع المحكي الذاتي أكثر من الفرد. ٭كاتبة مغربية القدس العربي