باريس- عندما كتب جان جينيه (1910 /1986) مسرحية "الزنوج" عام 1948، كان حريصا على أن يتقمص أدوارها ممثلون سود وتعرض أمام جمهور من البيض، لكي يبين أن "الزنجي" هو رجل أسود ينظر إليه بعيون عنصرية، وسمى مسرحيته تلك "تهريجا"، إذ تتنامى أطوارها حسب خيط دقيق يفصل الشعائري عن الافتراضي والمصطنع عن الواقعي. في عرضها الحالي بمسرح الأوديون بباريس، حوّلها الأميركي بوب ويلسن صاحب الأسلوب المميز في الإخراج إلى كرنفال، حيث الرقص والموسيقى وحشد الأضواء. تستمدّ المسرحية شكلها من الحفل الشعائري، وتقوم على بنية متوالدة ينتأ فيها اللاحق من رحم السابق. يصنعها ثلاثة عشر ممثلا، سود كلهم، يجتمعون في مكان مستتر لأداء تراجيديا كلاسيكية. يتدربون بغير انقطاع على مسرحية "مقتل البيضاء"، وهي امرأة بيضاء البشرة تدعى ماريا، فينقسمون إلى فريقين: فريق محكمة البيض، ويتألف من الملكة والقس المبشّر والقاضي والمحافظ والعسكري والخادم كناية عن العالم الكولونيالي، ويستترون خلف أقنعة بيضاء. وفريق الزنوج الذين يسردون أطوار الجريمة التي اقترفوها أمام محكمة البيض، لكي تقاضيهم وتصدر حكمها ضدّهم. وأمام نعش أبيض لجثة وهمية، يشرف رئيس المحفل أرشيبالد على قيام الزنوج بتمثيل اغتصاب ماريا وقتلها. في الأثناء، تُقترف في الكواليس جريمة حقيقية: قتل السود لخائن من بني جنسهم. وفي ذلك استعارة للفعل البادي (وهو مجرّد تمثيل) والفعل الخافي (وهو حقيقة واقعة). وبذلك تتبدّى المسرحية وهي تكتب، ويتجلى الخداع وهو يصنع. في هذه الدراما يتشابك الواقع بالتمثيل حدّ الالتباس. حيث تتمّ خارج الخشبة مقاضاة محكمة سوداء لأحد الخونة، وتقدّم على أنها حدث حقيقي. وعندما يتزامن إعدام الخائن مع إعدام الأقنعة البيضاء، يحدث نوع من التمرّد. أي أن الدراما التمثيلية لها انعكاسها على أرض الواقع، فالممثلون يمثلون أدوارا، ولكن بين الحين والآخر تدركهم أمور الحياة العادية، فينسون أدوارهم أو يرفضون أداءها. أي أن التمثيل هنا هو الطاغي، فهو يزعزع أركان المسرح نفسه والظرف الذي يوضع فيه المتفرج. هو مسرح مخادع، محفل انتقام لا جثة فيه. مسرح يقوم على التنكر والأقنعة والمرايا بما يدعم بنية الدراما. هذه المسرحية يمكن مقاربتها وفق قراءة تأويلية سياسية، ويمكن أيضا تناولها من زاوية الحماسة المسرحية المنتشية. فجينيه يمعن في خلق التوتر بين قطب طقوسي يخضع إلى قواعد، وقطب احتفالي كرنفالي. فكيف تعامل معها بوب ويلسن، وهو كما نعلم واحد من أهم المنظرين للفرجة الحيّة، حيث المسرح بالنسبة إليه هو الرقص والموسيقى والأضواء؟ اختار ويلسن مقاربة لا تتقيد بتأويل فكري أو مفهومي سابق عن النص يستخلص منه تعبيرا ركحيا يصوّره. فهو يرسم دون تفسير، ويضبط الإيقاع والكوريغرافيا وفق منهجه الذي عرف به، حيث الحركات والإيماءات والكلمات والحضور تغدو لديه عناصر متساوية، تتمفصل في خطة شكلية مشتركة، تدعم بعضها بعضا حسب قواعد أسلوبية صارمة، سيرا على طريقة في الإخراج يسميها "بناء فضاء زمني" أو "الفضاء الزمن" يسهر على ضبطها مسبقا في ورشة عمل طوال أشهر، للوصول إلى تجانس في الأبعاد الصوتية والتشكيلية للعرض، دون أن يلتزم بال"ممسرحيات" التي دوّنها المؤلف. وبالرغم من قدرته الفائقة على الإبهار باستعمال وسائل يبدع في تصورها وتشكيلها، كما هو الشأن مع واجهة الكوخ الإفريقي، والمنصات ذات المستويات المختلفة الارتفاع التي تسند الظهر إلى شبكة طرقات رفيعة من الحديد، والتي اعتاد أن يجعلها متكاملة مع النص توحي بمعانيه أكثر مما تأوّله، فإن إخراجه ترك انطباعا بأن المعنى ينفلت أو يغيب. فجمهور مسرح الأوديون، خصوصا من لم يسبق له قراءة جينيه أو مشاهدة مسرحياته الشهيرة مثل "الخادمتان" و"الستائر" و"الشرفة"، لا تثير فيه ما أثارته عند عرضها في الخمسينات من شعور بالتعاطف مع الشعوب المستضعفة، والتنديد بجرائم العنصرية التي يقترفها البيض داخل المنظومة الكولونيالية، ولا يدرك المغزى الحقيقي الذي كان مطمح المؤلف في الخمسينات وهو "إباء السود"، كما يعبر عنه أرشيبالد أحد أبطال المسرحية: "نحن كما نريد أن نكون، وسوف نكون هكذا حتى النهاية، بكل عبثية". وهو ما يؤكده جينيه في قوله: "نقطة البدء، القدحة التي أوحت لي بهذا النص هي صندوق موسيقي يظهر فيه أربعة زنوج آليين ينحنون أمام أميرة من الخزف الأبيض. تلك التحفة يرجع عهدها إلى القرن الثامن عشر. في عصرنا هذا، ودونما سخرية، هل نتصور تحفة مماثلة بأربعة خدم بيض ينحنون أمام أميرة سوداء؟ لا شيء تغير. ماذا يحدث في أرواح تلك الشخصيات المبهمة التي استقرت في مخيال حضارتنا؟ لا روح لها. لو كان لها روح لحلمت بالتهام الأميرة". أما بوب ويلسن فيرى أن المسرح بالنسبة إليه هو الرقص في المقام الأول. تليه الحركة والفضاء. فهو يبدأ دائما بتأثيث الفضاء الذي سوف يتحرّك في إطاره الممثلون، وفق هندسة تحتشد فيها الأضواء والألوان وتتعالى الموسيقى، وقد استعان هنا بعازف الساكسفون الأميركي ديكي لاندري، ثم يفسح المجال للممثلين كي يبثوا الحياة فيه.