للبحر حضور قوي ومتكرر في ديوان «قبل أن تستيقظ طنجة» للشاعرة المغربية نسيمة الراوي. فهو يشكل في الآن تيمة محورية وفضاء كليا، تتناسل منهما تيمات فرعية (الموت، الذاكرة، الشعر، الدهشة...) وتتمركز حولها أماكن أخرى ذات أهمية بالغة (المدن، المقاهي، الشرفة، النافذة، الكورنيش...). بمعنى آخر، يتمظهر البحر على مستويين: المستوى الدلالي والمستوى السينوغرافي، بحيث لا تتكون البنية الشعرية في الديوان من خلال الصور والإيقاع والموسيقى والانزياح وحسب، بل تتبلور أيضا انطلاقا من البعد المَشْهَدي لهذا المكون المائي. يصبح البحر إذن موضوعة غالبة في القصيدة، ومسرحا لأحداث تحكيها الشاعرة بطريقة فنية. من ناحية أخرى، على المستوى اللفظي، يبدو جليا أن كلمة «بحر» هي أول ما تبتدئ وآخر ما تنتهي به القصائد. بين «يحاصرني البحر من كل الجهات» في الصفحة الأولى و»أرى سفينة تحمل البحر/صوب المقبرة» في الصفحة الأخيرة، ترسم الشاعرة نسيمة الراوي الخطوط العريضة لتلك العلاقة الخميائية التي تربطها بالبحر، باعتباره عنصرا طبيعيا يؤسس لكينونة الذات ويحدد شرطها الإنساني. بين الوجود والعدم، بين الحضور والغياب، بين البدايات والنهايات، يكون البحر، في تجلياته المتعددة (دلاليا، سينوغرافيا، لفظيا)، بمثابة المرآة التي تعكس الوجه الحقيقي للإنسان: «للبحر وجه/مثل وجهك» (ص27)، وجه إنسان متعب ومثقل بالأسئلة الوجودية التي لم يجد لها جوابا شافيا: «ماذا أكون لولا انصهار الشكل في الشكل؟ (...) ماذا أكون؟» (ص77). يجب الإشارة فقط في هذا السياق إلى أن المستويات الثلاثة تمنح مجتمعة للديوان نوعا من الوحدة، بحيث تدخل كل قصيدة في علاقات أفقية وعمودية مع القصائد الأخرى، فلا تجد لها معنى بمعزل عن العمل الشعري في رمته. التداخل بين هذه المستويات يؤسس في الحقيقة لقراءة تأخذ بعين الاعتبار كل التوليفات والتقاطعات والتجاذبات والأصداء القائمة بين القول الشعري ومكوناته المتعددة، وبين الذات الشاعرة والبحر. من هذا المنظور، لا يعدو البحر أن يكون مجرد مساحة/ساحة طبوغرافية، لها وجود في الواقع وحضور فعلي في العالم الخارجي. هذا المكون المائي «الأزرق» «المتموج» هو في العمق موطن للرموز المتعددة، وبؤرة للدلالات غير المألوفة لدى القارئ العادي، لذا تتأرجح علاقة الصوت الشعري بالبحر بين الرؤية التأملية، والأسئلة ذات النفحة الفلسفية، من أجل الكشف عن المجهول وسبر الأسرار الدفينة و»الدخول في جوهر الحياة والأسئلة الكبيرة» بتعبير الشاعر غسان مطر. تتوزع معاني البحر إذن، باعتباره ثيمة وفضاء ولفظا، بين ما هو وجودي: «المد حضور/الجزر غياب» (ص7) وما هو استعاري: «يلفظ البحر/كلمته الأخيرة/ويرحل...» (ص13) وما هو أسطوري: «البحر أسطورة يسردها المد للبر» (ص109). تبعا لذلك، يصبح البحر فضاء مركبا ونسيجا متشابكا من الدلالات والرموز والكنايات؛ إذ يتجلى في حالات مختلفة، ويتخذ في كل مرة شكلا جديدا. هذا التعدد الدلالي والرمزي والاستعاري لا يسمح للقارئ بأن يختزل البحر وكينونته المتغيرة في بعد واحد، ويحصره بالتالي في معنى وحيد. فهو تارة قصر مفتوحة أبوابه للعاشقين، وتارة أخرى مقابر جماعية. إنه بهذا المعنى مهد للحب والشغف، ولَحْدٌ للإنسان التائه في الوجود، وفي البحر تتجسد الأضداد وتلتقي، تتعارض وتتداخل، تبتعد وتتآلف ليصبح في الأخير سيمولاكرا للبداية والنهاية، وللحياة والموت، وللنشأة والاندثار، وللفرح والحزن. يجمع البحر في ثناياه بين الخلود والفناء، وبين البقاء والرحيل. في القصيدة نفسها، نجد تقابلا ضديا بين «يلفظ البحر/كلمته الأخيرة/ويرحل» وبين «وهذا الأزرق المتبدد فيَّ/لا يرحل» (ص132). ماهية البحر تكمن في هذه المتضادات، وحقيقته العميقة لا تنفصل عن هذه التقابلات العكسية التي تجعل من مده صياحا ومن جزره سكوتا: «المد صرخة/الجزر طلقة صمت» (ص99). وبين الصرخة والصمت تكون للشاعرة كلمتها الأخيرة، وتكون قصائدها رسائل جوانية ترمي بها في لُجِّ البحر، كي يلتقطها قارئ، هو الآخر عاشق للبحر، ومفتون بأسراره، ومبهر بجغرافيته المائية. هناك تداخل وتجاذب بين الذات الشاعرة والبحر. يُلهم البحر الشاعرة إذن بقصائد جميلة، ما كانت لتكتبها لولا العلاقة الحميمة التي تقيمها معه باستمرار؛ علاقة تمكنها من أن تعبأ ذاكرتها التي «تتثاءب» تحت ثقل الحياة، فلا تتوانى في أن «ترشح ملحا وشعرا (...) تمتد على طول المحيط» (ص11). إنها ذاكرة مسكونة بالغياب، ومتوجسة من النسيان، وتواقة للخروج من شرنقة الذات. ذاكرة تريد أن تتجاوز حدود أناها من أجل اللقاء مع الآخر والتحاور مع تجربته الخاصة شعريا، فحضور أسماء كل من لوركا وبولعيش وشكري، تلميحا وتصريحا، في ثنايا القصائد دليل على أن الشاعرة لا تكتب عن البحر بوصفه رقعة مكانية ضيقة لها حدود معينة؛ بل تجعل منه فضاء واسعا ترسو فيه العلامات والرموز والأيقونات التي تؤرخ للتجربة الإنسانية في منظورها الكوني الكبير، بعيدا كل البعد عن المحلية الخانقة. في علاقتها الحوارية مع الشعراء والكتاب، ومع عوالمهم الإبداعية، تكون الشاعرة قد أمدت القارئ ببعض المفاتيح التأويلية التي تمكنه من الكشف عن الأفق الشعري الذي تنتمي إليه حساسيتها الشعرية. لا تكتب الشاعرة من فراغ. فهي ذاكرة قرائية، وليست بمنجى من المتن الشعري الذي تشربته جيدا، وتملكته بقوة، وقامت بالتالي بتوظيفه جماليا وشعريا في قصائدها المتنوعة. هنا تظهر خاصية أساسية مفادها أن القراءة والكتابة هما في العمق فعلان متلازمان، لا انفصال بينهما؛ فعلان يدخلان في علاقة جدلية مستمرة تغذي روح الشاعرة، وتوسع أفق خيالها، وتضيف لتجربتها الشخصية تجربة الآخرين. كما يؤكد على ذلك تيري ايغلتون، كل «كلمة أو عبارة أو مقطع هو إعادة تشغيل لكتابات أخرى سبقت العمل الفردي أو أحاطت به» («نظرية الأدب» ترجمة ثائر ديب وزارة الثقافة سوريا 1995 ص236). من خلال حضور الأسماء والعناوين، تمد الشاعرة جسرا بينها وبين الشعراء، وتجعل من قصيدتها صدى شعريا لقصائدهم، وفضاء لأصوات شعرية أثثت هي الأخرى من الداخل والخارج، ومن الماضي والحاضر، ومن القديم والحديث. إذا كانت الشاعرة تكتب البحر، فهو في المقابل يكتبها. تقول في إحدى قصائدها: «لا يلقي البحر بظله/إلا ليكتبني بالرمل المبلل/أو ببقايا الزبد» (ص41). من خلال هذه الصورة الشعرية البليغة، يصبح البحر نفسه نصا شعريا، ويتحول معه الهدير إلى «موسيقى داخلية»، ويصير»الزبد بياضا بين السطر والسطر» (ص7)، و»لا يتوقف عن الغناء» (ص25). البحر، كشاعر اختطفته يد المنون على حين غرة، يلفظ «كلمته الأخيرة»، قبل أن «يرحل» (ص13)، ويترك وراءه فراغا كبيرا على الشاعرة ملأه بقصائد ذات تلوينات بديعة ومشاهد شعرية وصور مخملية، كلها في الحقيقة صدى للغياب والموت والفناء. في هذا التجاذب بين الكتابتين، الكتابة الشعرية والكتابة البحرية، يقع انصهار بين الشاعرة والأزرق المتموج، فلا تصبح الذات بعيدة عن الموضوع، ولا تتغنى به من الخارج، بل تلتحم معه وتنصهر فيه، فيكونان بذلك جسما واحدا، جسما شاعريا وجسما مائيا، جسما استعاريا وجسم متموجا، جسما عميقا وجسما أزرق... من خلال البحر، تعبر الشاعرة عن رؤيتها للعالم، وتطلع على خفايا الإنسان المسكون بالعدم، وتتجاوز قشور الأشياء، للغوص بعيدا في القاع والقبض على اللامرئي، من خلال صور ورؤى شعرية، مفعمة بحساسية جد رهيفة وانفعالات متوهجة. ناقد وباحث من المغرب محمد برزوق القدس العربي