ما بين عام 1958 والعام الحالي 2014 صدر لسميح القاسم ما يربو على 70 كتابا بين مجموعة شعرية ومختارات وأعمال شعرية شبه كاملة، وسِيَر ذاتية، وشهادات وأعمال روائية، وترجمات عن العبرية ومقالات جرى جمعها ونشرها في كُتُب. وهذا يعني أن حياة الشاعر الذي ولد عام 1939 في الحادي عشر من شهر أيار/مايو لا تخلو من الدأب الموصول، والجهد المبذول، في سبيل حياة إبداعية وفكرية خصبة ومعطاءة، تشهد على ذلك تلك المؤلفات التي جادت بها قريحة القاسم الوقادة وعقله النشيط المتوثب وذهنه المتوهّج. وفي السنة الأخيرة من حياته، وبعد أن كان قد أصيب بمرضه الذي لازمه ملازمة الظل لصاحب الظلّ، وملازمة القرين للقرين، حتى توفاه الله، واستسلمتْ روحه للحيّ الذي لا يموت، لم ينقطع عن الكتابة، وقد امتلأت قصائده الأخيرة «ضجيج النهارات حولي» موزاييك للنشر والتوزيع عمان 2015 بما يمكن أنْ نعدّه رثاءً مبكرًا للنفس، وحديثا عن الموت قبل الموت. هذا على الرغم من أنَّ القاسم يحبُّ الحياة، وهو متشبِّثٌ بها، وبكلّ ما تعنيه منْ مُمْكنات: يا ربُّ يا شُعيْبُ يا عذراءُ يا رسول معذرةً، فإنني أواصلُ الحياة بكلِّ ما تشاؤه الحياة فلا تزالُ مُمْكنة (ص44) فالشاعر الذي لا يُصغي لصوت النذير مُحذرًا من هذه وتلك، لأنها (مُسَرْطِنَة) يعلنُ جهرةً تشبُّثه بالحياة، على الرغم من أن المرض العاتي يحول بينه وبين التمتع بما فيها من دفْءٍ، فهو لا يستطيع حتى الاحتفال برأس السنة الجديدة، فما معنى ذلك الاحتفال إذا كان العام لا يحمل له بشرى بالشفاء، بل ينبئ عن النهاية المحتومة المتوقعة، وهي الموت. فأيُّ احتفال يمكن أن يجري في ظلال المرض؛ حيث لا شموع، ولا دموع، ولا شفاء، ولا هواجسَ تتضمَّنُ- على الأقل – الأمل بالمعافاة، والخروج من دائرة الألم: بلا شمعةٍ وبلا دمعةٍ وبلا فلَّة بلا سوْسَنة يمر احتفالي برأسِ السنة تمرُّ ببالي هواجسُ عام طويلٍ، عريض وأحلامُ جسمي المُعافى، وآلام جسمي المريض (ص45) فالواقع خلاف الأماني والهواجس، إنه يحلم بالشفاء، والبرْء من سَقمه، غير أنَّ ذلك كله لا يتعدى الأضغاث، فآلام جسمه المريض تحيل أحلامه هذه إلى كوابيس. وهذا المرض، مع ما يلازمه من الأوجاع، يمنع الشاعر المبدع من أن ينهض إلى قلمه، وإلى أوراقه، فيكتب الشعر معبرًا عما في النفس من رغبات يكْبتُها الألمُ، وذلك قد يُنظر إليه على أنه استراحة المحارب، فهو لنْ يكتب بعد الآن، وقد آن للفارس أن يعتزل الميدان، وللمغنّي أنْ يتوارى، وأن يلتحف الصمت، تاركا للأفق أن يرتلَ ما أبقاه من أناشيد تدوّي في مسامع الزمن: لك الآن ألا تبوح لك الآن أن تستريح غموضُك أنت الوضوح لك الآن ألا تقولَ كلامًا جديدًا فصمتكَ صار نشيدًا ونجمًا على كلِّ أفق يلوحْ (ص49) وعلى الرغم منْ أنَّ القاسمَ لا يَخْشى الموت، ولا يخاف الفناء كغيره من الناس، إلا أنه لا يُخفي ما يُلازم انتظارهُ إياهُ من قلقٍ، وتوتُّر، فقد تصوَّر رؤيا منامية يزوره فيها كونفوشيوس، ويخبرُه في تلك الرؤيا أنَّ الحياة والموت سيّان، فما يجده الحيُّ من قلقٍ في حياته، ومنْ تعَبٍ، أقسى بكثير مما يكابدهُ الميّت من الموت، ومع ذلك، فبعد أنْ أدار له كونفوشيوس ظهره وولّى، مستيقظاً من رؤاه، ظلَّ صدى كلماته تلك يتردَّد في ذهنه، والقلق من الانتظار يتحَكَّمُ به ويساورُه: عادني أمسِ كونفوشيوس قال لي هادئا: قلقُ العيْش أقسى من الموتِ، يا صاحبي قالها وانْطلَق، تاركاً ظلهُ، وصدى صوتهِ، وأنا.. والقلقْ (ص74) ما الشعورُ الذي يداهمُ سميح القاسم وهو يتأرجح بين الوجودِ والعَدَم؟ شعور من يعاني بانعدام اليقين، ولكنه يتغلب على شعوره هذا، ويحاول أنْ يطمئن النفس بأنَّ النهاية قابَ قوْسيْن والساعة قادمَة بلا ريْب. ولكنه يعزي النفس بكلمة رثاء لطالما ردَّدها الشعراء قبل أن يفارقوا الحياة، وذلك أن حياتهم مستمرة بعد الموت؛ فاشعارهم تُبْقي أسماءهم حية في أذهان الناس، وتضيفهم سطرًا جديدًا في سجلِّ الخالدين، تذكُرُهم الأيام مثلما تذكرُهم الميادين، وعلى هذا لا يجدُ القاسِمُ في زفراته الأخيرة ما يعبّر عن ندم: سأموت! أجلْ سأموت إنما لا أموتْ الميادينُ تذكرُني والبيوتْ فلأكنْ واقعيًا إذاً سأموتْ ويكونُ السكوتْ السكوتْ. (ص117-118) يحاولُ الشاعرُ القاسم – على شاكلة الشهداء الذين لا يروْنَ في الموْت نهاية للحَيّ، بل بداية لحياة جديدة تتواصل في ما بعد الرحيل، تتواصلُ من خلال النضال اليومي، ومن خلال الحرْص على الوطن، وعلى الأرْض، وعلى التاريخ، وعلى المهَمَّشين المَسْحوقين من أبناء الشعْب- يُحاولُ أنْ يمنح موته مَعنىً جديداً، ولهذا يُلحُّ إلحاحًا شديدًا على أنَّ فريسة الموت – ها هنا – ليست أيَّ ميِّتٍ عادي، وليس جثمانه كأيِّ جثمان يُحمل على الألواح إلى مثواه الأخير على إيقاع لحن جنائزي حزين حَسْبُ، وإنما هو ميّتٌ مبتسمٌ على الرغم من هموم الحياة التي باغتتْهُ، ولم تنل من عزيمته القويَّة، ولا من شكيمته الجبَّارة، فهو، وعلى الرغم من ضروب الألم التي تراكمت، وتكالبتْ عليه من كل صوب، تريدُ النيل منه، لم يَتزَعْزَع، وهو باتحادهِ معَ المعذبين في الأرض رجلٌ واحدٌ تنْبض في عُروقِهِ أممٌ من الرجال: رجلٌ من حياة ولحم ودمْ باغتته همومُ الحياة بلا رحْمةٍ فابْتسمْ وتحدَّى صُنوفَ الألمْ رجلٌ واحدٌ في شرايينهِ نبْضُ كلِّ الأمَمْ (ص69) كيفَ يمكنُ لرجل تنبض في شرايينه حياةُ الأمم أنْ يموتَ بهذه البَساطة؟ عن هذا السؤال يجيبُ القاسمُ في زفْرةٍ منْ زفراته الأخيرة، مؤكدًا أنَّ موته سفرٌ كغيرهِ من الأسْفار. واستعداده للموت كاستعداد المسافر يضرب لسفره موْعدًا، ويهيئ نفسه التهيئة المناسبة، ويختار الأجواء التي يحلو فيها السفر، فهو قد يرتحل في الصيف، أو في الخريف، لا فرق: ايها الصيف يا صيف عامي الأخير. كنتَ كمْ كنتَ محتقنًا بالدواءْ بالحبوب وبالمصل والكيمياء وببعض الكلام الخطير عن صباحٍ وما من مساء أيها الصيفُ قلْ لي – وكنْ صادقا- هلْ يكون الخريف مشهدا لتساقط شعري الرمادي الخفيف في تساقط عريي، وعرْي الشجر أم تضيقُ حدود الخطر ويضيقُ الكلام المُخيف من هبوب رياحي، وريح السفر وليكنْ، ها أنا جاهزٌ للسفر في صباحٍ نظيف برذاذ المطر (ص99) لكنَّ هذا المسافر، كأيِّ مسافر آخر، لابد أن يعود في يوم من الأيام، وسميح القاسم لا يفقد هذا الأحْساس، وهو اليقين بعودته من قبره منبعثا في هيئة أخرى تختلف عن هيئته التي يعرفه بها الجميع، بوجه غير وجهه، وبصوت غير صوته، وفي وقت غير الوقت الذي وُلد فيه، أو عاش فيه، أو رحل فيه، ولا يهم في أيّ مكان تكونُ عودته، ولا في أي زمن يكون الانبعاثُ، فالمهم أنه على يقين من أنه عائدٌ إلى الأهل، عائد للوطن، عائد للبيت، عائدٌ لشعره، عائد في صورة من الصور التي تعني تجَدُّدَ هذا الشعب الذي ينتسبُ لهُ الشاعر مثلما يتجدَّد طائرُ الفينيق مُنْبعثًا من رماده بعد الاحتراق: أعلم أني سأولد من بعد موتي وقد يتغير وجهي وقد يتبدَّل صوتي وأحلم من قبل موتي، ومن بعد موتي بأي مكانٍ، وفي أي وقتِ بأني أعودُ، وسوف أعود لأهلي، وأرضي، وبيتٍ جديد من الشعر سوف أعودُ وسوف أعودُ لبيتي، أموتُ، وأولدُ، ثم أموتُ، وأولدُ، ثم أموتُ.. وأولدُ لا تسألوني متى؟ كيف؟ أين أموتُ.. وأولد؟ (ص86) يختصرُ الشاعرُ في هذه الأبيات مأساة الإنسان المُقاوم، فهو قد يلاقي حتفه في المستشفى، أو في البيت، مع أنه قضى عمره يقارع الأعداءَ بالقلم، وبغيره من سلاح، لم يُهْزمْ مرةً واحدة، بيْدَ أنه- في نهاية الأمر- يُهزمُ أمامَ المرض، ويلاقى مثل هذه النهاية (حتف أنفه) من غير أنْ يظفرَ باسم الشهيد، وعزاؤه الوحيد، وهو يلفظ في وجه العالم بزفراته الأخيرة، تلك الصورة التي يرسُمها لنا سميح القاسم بوضوح تغلبُ عليه المَرارة، ويغلبُ عليه الشَجَنُ، ويغلبُ عليهِ الإحساسُ بمعاناة الناس، أكثرَ من الشعور بمعاناتهِ هُو، وهو على حدِّ السيف بين الوجودِ والعدم: لفلسطينَ أغني وأغني للسلام رافعًا وجهى ابتهالا وصلاة واضعًا كفّي على قلبي فيا قلبُ اتسع محتضنًا كلَّ الجهات لفلسطينَ أغنّي وأغنّي للحياة (ص85) تسترعي انتباه القارئ لهذا الديوان كلمة (كولاج) التي تظهَرُ على الغلاف، وهي كلمة أجنبية اشتقت أساسًا من الكلمة الفرنسية collar وهي تعني الرسم باستخدام تقنية اللصق، وكان هذا النوع من الفنّ قد ظهر بادئ الأمر في الصين، ثم شاع في أنحاء شتى من العالم، وأصبح سمة من سمات الفنِّ التشكيلي في حقبة من القرْن الماضي. والقاسِمُ كان قد دأب منذ زمن على استخدام هذه الكلمة في وصف مَجْموعاته الشعريّة، وهو وصفٌ دقيق، لأن من يقرأ هذا الكتاب يكتشف، بيسر، أنه نفثات شاعر جريح يلفظ أنفاسه الأخيرة، على هيئة قصاصات من قصائد تبدو للقارئ – للوهلة الأولى – أنها تفتقرُ للانسجام والتماسُك. غير أنَّ هذا الانطباع السريع سرعان ما يزولُ، كون القارئ يكتشف، بعد التأمُّل العميق والتدبُّر الدقيق، أنَّ هذه النفثات وإن بدَتْ متناثرة، أو مُبَعثرة، تعبر عنْ شعور واحد، فهو في مقطع مُكثَّف يشبه قصيدة الهايكو اليابانية يعبر عن توقه للخلاص من علته المزمنة بالمَوْت، قائلا: سأختصرُ الوقْتَ والأمْكنة وأهربُ بالموْتِ من علتي المُزْمنة (ص102) واللافتُ للنظر شغف القاسم في هذه القصائد باختيار العبارة التي تحاكي حديث الناس في حياتهم اليومية، فهو يخاطب المرأة بعبارة «يا نور عيني» ولا يجد في ذلك هبوطا بمستوى أدائه اللغوي المتأنق. وهذه الظاهرة تعمّق الإحساس بأن قصائده هذه تقوم على جمْع هذه النفثات بصورة غير متعَمّدة، ولا مقصودة، فهي خواطر يغلبُ عليها أنها هذيان مريضٍ ما يزال عقلهُ وذهنه في غاية القوة والنشاط الإبْداعي. ناقد وأكاديمي من الأردن إبراهيم خليل القدس العربي