بابتسامة التفاؤل والأمل يحدثك أهلها الطيبون...، ويقولون عنها إنها "أبو عرديبة روح البلد"..، وإن اسمها مشتق من اللقية الطيبة، أو "لقاوة.. حلاوة"، كما يشجي الحوت محمود عبد العزيز. وإذا أردت لحنا شفيفا ينداح في القلب والعقل معا في ذات اللحظة، فاستمع إلى الأديب والمثقف المرهف فضيلي جمّاع ينثر قائلا "لقاوة ليست مجرد تلك المدينة التي تربط شموخ جبال النوبة بكبرياء سهول المسيرية وبوادي دار حمر الفسيحة. هي فوق ذلك نسيج سوداني متجانس بين مجموعات اختلطت أرحامها والتقت في حلو العيش ومُره منذ أكثر من ثلاثة قرون، حين وفدت عشائر المسيرية إلى هذا المكان لتلتقي، في المأكل والمشرب والمرعى والزرع والضرع وفي المآتم والأفراح، بعشائر النوبة والداجو والتنجر والبرقو وآخرين. فالناس في لقاوة قوس قزح..، وهم، لمن لا يعرف الجغرافيا البشرية، مساحة من تآلف وتجانس قوي، إن صاح بالوجع واحدهم تداعى له الآلاف من جنقارو وكاتشا وكيقا الخيل مرورا بالبردية ورجل الفولة وانتهاء بالمجلد، توأم لقاوة!". أما إذا كنت من أنصار المعرفة المباشرة، من حيث الجغرافيا والديموغرافيا، فلقاوة مدينة تقع في الطرف الغربي من جنوب كردفان. وهي آخر مدينة في نهاية جبال النوبة، حيث تحيط بها من الجنوب الشرقي جبال ورينا وكمدا الطرين. وعلى ضوء التقسيمات الإدارية الجديدة في عهد الإنقاذ، التقسيمات ذات الصلة بالمصلحة السياسية وليس الواقع، أصبحت لقاوة ضمن ولاية غرب كردفان. وتحتضن لقاوة مجموعات متنوعة وكثيرة من الشعب السوداني، ولكن أغلبية السكان هم مجموعات النوبة (كمدا، تلشي)، والمسيرية الزرق، بالإضافة إلى بعض من خشوم بيوت الداجو (داجو سليجي.. داجو ورينا.. داجو الدار الكبيرة.. داجو تبلدكو). ولعل الموقع الجغرافي، وأيضا كذلك التركيبة الديمغرافية، يضعان المدينة وأهلها في خضم حالة معاناة الروح في الهامش التي ناقشناها في مقالنا السابق. فمنطقة، أو محلية لقاوة، تقع ضمن المناطق المتاخمة لمناطق الحرب وهلالها الدامي، حيث نلحظ التأرجح البيّن والاتجاهات المتذبذبة ما بين تأييد أو رفض الحرب، وحيث دوامة الاستقطاب الحاد للوقوف في صف النظام أو صف المعارضة المسلحة. أما فكرة، أو أطروحة، الحفاظ على السودان الواحد المتوحد، فسنجد أن سكان المناطق المتاخمة يستشعرون صعوبة تبنيها المطلق، رغم أنهم يتمسكون بها، دون أدنى شك. وبرغم المعاناة التي تستطيع أن تحيل أي قوي إلى واهن مستضعف، وبرغم البرد الزمهرير القارس، فإن لقاوة تعيش اعتصاما وإضرابا سياسيا عاما، هو الأول من نوعه في المنطقة، والذي ابتدأ في اليوم العاشر من نوفمبر من العام الماضي، 2014، ولا يزال مستمرا حتى لحظة كتابة هذا المقال. وهكذا، وبحكم عوامل عديدة، منها عامل الموقع المحقق لمعاناة الروح حسب ما تناولناه سابقا، اجترحت لقاوة طريقها الثالث الذي يجعلنا ننظر إليها الآن كبقعة تسعى جادة للتطهر من دنس العصبية القبلية، ولمقاومة الاستكانة للظلم، فتنصب ميدان حريتها وتجهز قدح اعتصامها بنفس فرحة أم العروس..، وتدهشنا، بل وتعلمنا، فاطمة ضيف الله، إحدى المعتصمات في ميدان الحرية، بعبارة بسيطة وعميقة "إن المطالب لا تأتي بالتمني ولا بحمل السلاح فقط.."! إذن، استكشفت لقاوة الطريق الثالث، وشرعت في اعتصامها الثوري السلمي، محروسة بكلمات المهاتما غاندي: في البداية يتجاهلونك...، ثم يسخرون منك..، ثم يحاربونك..، ثم تنتصر!! اشهرت لقاوة سلاحها الغاندوي ضد التهميش والإقصاء، مستظلة بشعارات واضحة وصارمة القسمات: لا حزبية ولا قبلية...، لقاوة هي القضية...، والتنمية مطلب شعبي، ومعلنة عن مطالب محددة، في مقدمتها: موية وطريق ومستشفى. وتمترست لقاوة في ميدان الحرية، محولة الميدان إلى مجال متحرك نشط ومبدع، يعج ويضج حيث لكل دوره ولكل مكانته ومن كل مساهمته بحسب قدراته وطاقاته. وفي اعتصامها الصامد، توشحت لقاوة بثوب مطرز بسمات الثوري السوداني الأصيل الذي يرقص على أنغام المردوم والنقارة، ويصوم الإثنين والخميس، الكبار يجلسون على الكراسي، والأطفال يستمتعون بأن يكونوا أكثر قربا من الأرض وإلتصاقا بها، الفتيات يجهزن الطعام والشاي، والشباب يخرج فى مخاطبة القرى المجاورة مثل كركر وبارك الله وجنقارو، بحثا عن التضامن والموقف الجماعي الموحد مكتمل الأركان وبكل الألوان، فالناس في المنطقة "قوس قزح"، كما يقول فضيلي جماع صادحا. وهكذا، ومنذ اللحظات الأولى للاعتصام وحتى اليوم، تسخر لقاوة وتمد لسانها، أيضا كما قال فضيلي جماع، تجاه "حكما جاء يدعو إلى إصلاح الضمائر والنفوس فتمخض أوضاعا اقتصادية قاسية تشجع على خراب النفوس"، بحسب تلخيص أديبنا الطيب الصالح، بطريقته المتبصرة، للحالة السودانية. اتجاه مناطق الهامش لترجمة شعار الإضراب السياسي العام لطريق الاعتصام، ليس أمرا جديدأ. فقد سلكت عدة مناطق هذا المنحى الذي أثبت فعاليته، أشهرها اعتصام المناصير، متعدد الجولات، والذي استمرت جولته الأخيرة لأكثر من مائة يوم قبل أن ينفض بالتوقيع على اتفاق مع الحكومة. والملاحظ أننا بكل سهولة يمكننا اكتشاف مجموعة من السمات والصفات المتشابهة، بل والمتطابقة، في كل هذه الاعتصامات والاحتجاجات، ومن بينها اعتصام لقاوة وقبله اعتصام المناصير، وذلك من جانب الفعل، أي الاعتصام نفسه، وجانب رد الفعل تجاهه من قبل الحكومة: أولا: كل هذه الاعتصامات والاحتجاجات ترفع شعارات واضحة ضد التسييس والاستغلال الحزبي للقضية، وتصر على تأكيدها والطرق عليها بشكل دائم، دون أن يعني ذلك رفضها للسياسة أو الأحزاب. ولعلها بذلك ترسل إشارتين إلى جهتين محددتين: رسالة تحذيرية إلى الحكومة بألا تبتذل الأمر وتتهرب منه، وتتحلل من مهامها وواجباتها عبر إختزال القضية ووصمها بأنها أحد أوجه الصراع السياسي بين الحكومة ومعارضيها. والإشارة الثانية مرسلة إلى الأحزاب والقوى السياسية، محتواها يحمل معنى النقد والرفض لسلوك هذه الأحزاب ومناهج عملها، تجاه مناطق الهامش وقضاياها، كما سنناقش لاحقا. ثانيا: في كل الاعتصامات والاحتجاجات، وآخرها اعتصام لقاوة، تدير الحكومة أسطوانتها المشروخة لترقص على أصواتها رقصتها "الشتره"، حيث تتهم الاعتصامات والمعتصمين بتنفيذ مكائد ودسائس وخطط الشيوعيين والمعارضة المسلحة. لكن هذا الاتهام، لم يمنع أهل لقاوة، المعتصمين في ميدان الحرية، والقاطنين في منطقة ذات خصوصية واضحة ناجمة من كونها منطفة متاخمة لمنطقة الحرب التي تتشظى امتدادات من صلة الدم صلة العشيرة، لم يمنعهم من استقبال برقية التضامن التي أرسلها لهم القائد عبد العزيز الحلو، قائد العمليات العسكرية لقوات الحركة الشعبية/شمال في جنوب كردفان. استقبلوا البرقية بكل هدوء واحترام، دون أن يطوف في خلدهم أي تخوف باتهامهم بالانتماء للحركة، بل وكأنهم يرفضون مواقف الحكومة التخوينية التي تختم بها مثل هذه الحالات. ولعل هذا القبول الموقر لبرقية الحلو، يعكس جانبا مما ذهبنا إليه وحاولنا تصويره ونحن نتحدث عن معاناة الروح بين أهلنا في المناطق المتاخمة لمناطق أهل الحرب، كما أشرنا في خاتمة الفقرة الأولى من هذا المقال تلخيصا لما جاء في مقالنا السابق. ثالثا: جميع الاعتصامات والاحتجاجات ووجهت بالعسف والعنت وممارسات الطاغي المستبد، لكنها برغم ذلك لم تتنازل عن شعار السلمية ورفض حمل السلاح. ومع ذلك، ومقرونا بإصرارهم الشديد على عدم تسييس قضاياهم المطلبية ورفضهم الشديد لتدخل الأحزاب السياسية، فإن المعتصمين في لقاوة أعلنوا بكل قوة أن الاستهتار الذي تقابل به الحكومة قضيتهم سيجعل من لقاوة شرارة لإسقاط النظام. وهو ذات الإعلان في الاعتصامات الأخرى، إما جليا أو في الضمير المستتر. (نواصل). التيار