بدأت الاعتقالات السياسية في السودان منذ عهد الاستعمار فزُجَّ بكل من له رأي مخالف في السجون، ولم يستثن من ذلك أحد، زعماء، وقادة سياسيون وكتاب ومثقفون ونقابيون وزعماء عشائر. فبدءاً ب (عثمان دقنة) مروراً بأبطال ثورة عام 1924م والزعيم الأزهري وزعماء كثر، بينهم محمد عثمان الميرغني، الصادق المهدي، الترابي، ومحمد إبراهيم نقد والقائمة تطول ولا تحصى. لكن سجن المثقفين والمبدعين وأهل الفن وأصحاب الآراء والمفكرين والشعراء أشد مضاضة إذ أن بعضهم وعلى (رهافة حسه) عاش أياماً حالكات سوداء وليالي مضنية، خلق القضبان. أشهر الشعراء المساجين ومثلما اعتقل السياسيون، كان للمثقفين أيضا نصيبهم من ذلك، ومن أول الشعراء الذين أدخلوا السجن الشاعر علي المساح أو (علي أحمدانة) الذي كان عضوا ناشطا في حركة اللواء الأبيض التي ناهضت من أجل طرد المستعمر، حيث استخدم المساح موهبته الشعرية الكبيرة، فكتب شعرا وطنيا ضد الحكم الإنجليزى وبسبب النشاط السياسي والشعر الوطني تم القبض علي المساح وزج به في غياهب السجن لكن ذلك الذي كتبه علي المساح ضاع واختفى ولم يحظ السودان بوطنيات علي المساح مثلما ظفر بوطنيات خليل فرح. المساح.. العراوي للجلابيب الجديدة في دكان الترزي عبدالرحيم أحمد بود مدني كان المساح يخيط (العراوي) والزراير للجلابيب الجديدة، وكتب العديد من الأغنيات منها (الشاغلين فؤادي) وأغنية (انت بدر السماء في صفاك) (زمانك والهوى أعانك) (يا غضن الرياض المايد) وكذلك شاعر البطانة الحردلو, وقد اعتقل في عهد الخليفة التعايشي واستطاع أن يظفر برضا الخليفة عبدالله وبقصائده أيضا كان يشفع للمساجين من قبيلته ومنهم أيضا الشاعر الدبلوماسي سيد أحمد الحردلو الذي سجن في عام 1971م وفصل عن وظيفته وكتب بعد خروجه من السجن: "أشهد أنني أحب وطني وأن ذاك الحب قد جرحني ونال من عافيتي وبدني ورغم هذا كله شردني حكام وطني". عمر الدوش ومحجوب شريف وكذلك الشاعر المميز عمر الدوش ومحمد الحسن سالم حميد صاحب ديوان (أرضا سلاح) وهاشم صديق، ومحجوب شريف أشهر سجين عالمي، فشاعر الشعب اختير ضمن أشهر سجناء الرأي في العالم، حيث أنفق عشر سنوات خلف القبضان في نظام نميرى وتسع سنوات في عهد الإنقاذ، وفي السجن كتب (شريف) قصيدته الشهيرة: "مساجينك مساجينك نغرد في زنازينك/ عصافير مجرحة بي سكاكينك/ نغني ونحن في سرك وترجع إنت في قصرك". محمد حامد (ضابط السجن) وفي السياق لا يفوتنا أن نشير إلى الشاعر الفذ (محمد حامد آدم) عندما اعتقل في فترة الرئيس نميري وزج به إلى سجن مدينة الأبيض الذي شهد ميلاد واحدة من أجمل قصائده التي خلدها صوت بلبل الغرب الشجي عبدالرحمن عبدالله "ياضابط السجن صبرك لحظة واحدة/ إذنك لحظة واحدة اتزود بنظرة/ وأرجع انسجن خمسة سنين طويلة". وللهمباتة أيضا أشعار عظيمة في السجن، ومن أشهرهم الشاعر (الطيب ود عبدالقادر ود سليمان ود ضحوية) لا يسمح السياق بالإتيان بنماذج منها. عود وردي زي الدبابة إلى ذلك، فقد سجن في عهد مايو، من التشكيليين (إبراهيم الصلحي) ومن المثقفين (عبدالله علي إبراهيم) ومن المطربين الفنانين (إدريس إبراهيم، محمد وردي ومحمد الأمين)، ويحكي عن (وردي) طرفة عندما كان مع معتقلاً في سجن كوبر، حيث أنه وكما جرت العادة لا بد أن تلبى احتياجات المعتقلين السياسيين وطلباتهم، وتقدم لهم الخدمات الضرورية وفقاً للقوانين المعمول بها، وقيل إن وردي طلب من الضابط أن يحضر له (عود) فما كان من الأخير إلا وأن رد عليه بسرعة: هو نحن قبضناك عشان كنت راكب دبابة ، ولاّ عشان العود دا! مذكرات القدّال رغم أن (الحبس) يعني مصادرة أغلى قيمة يمتع بها الإنسان (حريته)، إلا أن هنالك بعض الجوانب الإيجابية التي تتيحها المعتقلات، فقد كتب العديد من سجناء الرأي وغيرهم – بجسب إفادة سابقة للأستاذ نور الهدى محمد نور، المدير العام لدار عزة للنشر والتوزيع لكاتبة السطور - مذكرات عن اعتقالهم في السجون عكسوا فيها تجربتهم في المعتقل ومنهم الدكتور محمد سعيد القدال، الذي كتب (مذكرات عن الاعتقال في أكتوبر)، والأستاذ مبارك محمد صالح (مذكرات في كوبر) والدكتور صدقي كبلو الذي كتب (مذكرات معتقل سياسي) وغيرهم. اليوم التالي