في دكان الترزي عبد الرحيم أحمد بود مدني، كان هناك رجل يرقد على سجادة صلاة أو( فروة) أو (برش) أو (جوال فارغ) أو (قطعة كرتون). كانت مهنة ذلك الرجل هى خياطة (العراوي) و(الزراير) للجلاليب الجديدة. كان ذلك الرجل هو الشاعر علي المسَّاح. وكانت تلك نهاية بطل من أبطال المقاومة الوطنية السودانية. كان (علي المسَّاح) أو (علي أحمدانه) وهذا اسمه، عضواً ناشطاً في حركة اللواء الابيض بقيادة الضابط علي عبد اللطيف. وقد تأسست حركة اللواء الابيض بمدينة ود مدني عام 2291م، وقد أفادني الأستاذ مجذوب عيدروس إلى أن تلك الحقيقة قد سجلها المناضل الوطني الكبير مدثر البوشي (أول وزير عدل سوداني)، كما سجل تلك الحقيقة في مؤلفاته المؤرخ محمد عبد الرحيم. وقد عُرفت حركة اللواء الابيض بثورة 4291، وذلك خطأ شائع. الصحيح أن حركة اللواء الابيض أو ثورة (4291) قد تأسست عام 2291م. وقد شهدت الساحة الموجودة اليوم شمال الكلية الإعدادية لجامعة الجزيرة بود مدني أول صدام بين علي عبد اللطيف والحكم البريطاني. ومثلما شهدت ود مدني تأسيس حركة اللواء الابيض عام 2291م، كذلك شهدت فيما بعد تأسيس مؤتمر الخريجين. وهى فكرة انبثقت في ذهن المناضل الوطني أحمد خير ( وزير الخارجية)، وهو أحد أبناء ود مدني. جاء مؤتمر الخريجين على نهج حزب المؤتمر في الهند. كان الشاعر (علي المسَّاح) عضواً ناشطاً في حركة اللواء الأبيض لتحرير السودان من الإستعمار. حيث استخدم (علي المسَّاح) موهبته الشعرية الكبيرة فكتب شعراً وطنياً ضد الحكم الانجليزي. وبسبب النشاط السياسي والشعر الوطني تم القبض على (المساح) وألقى به في غياهب السجن. لكن ذلك الشعر الوطني الذي كتبه علي المسَّاح ضاع واختفى، ولم يحظى السودان ب(وطنيات) علي المسَّاح، مثلما ظفر ب(وطنيات) خليل فرح، وإن كان المنطق يفيد بأن (وطنيات) المساح أسبق في الزمن من (وطنيات) خليل فرح. أيضاً لا يدري أحد ماذا كتب علي المسَّاح في السجن أو انعكاس السجن على تجربته الشعرية. وانتهى المطاف السياسي بالشاعر علي المسَّاح ليتحوَّل من ( مناضل وطني) إلى خياط (عراوي) و(زراير). حيث كان الشاعر المناضل يستلقي على (فروة) صلاة أو جوال خيش فارغ ينتظر تكملة خياطة جلابية جديدة في دكان الترزي عبد الرحيم أحمد. جدَّ (شارلي شابلن) الناشط في انتفاضة الكفاح الوطني الآيرلندي انتهى به المطاف السياسي من مناضل إلى إسكافي. لكن ليس الشعر الوطني الذي كتبه علي المساح هو الوحيد الذي ضاع. فقد كتب شاعر المدائح ذائع الصيت أحمد ود أب شريعة ( ركابي من جزيرة ساردية قرب شندي) شعراً ثورياً في الجهاد الوطني، غير أن ذلك الشعر تمًّ إحراقه في أعقاب الإحتلال الانجليزي للسودان. أيضاً دار نشر جامعة الخرطوم عندما طبعت لأول مرة ديوان احمد ود سعد شاعر المدائح الشهير، وهو كذلك شاعر كبير مجيد في السياسة والثورة، لم تنشر في الديوان شعره في الجهاد الوطني. حيث اقتصر شعر الديوان على قصائده في المدائح النبوية. أيضاً الشاعر حسين بازرعة لا يعلم الكثيرون بوجهه السياسي وعطائه الوطني، بقدر علمهم بثمان عشرة أغنية عاطفية خلَّدت اسمه. كذلك ضاعت واختفت (وطنيات) الشاعر الوطني المناضل علي المسَّاح، وبقيت (غزليات) الشاعر العاشق (علي المسَّاح). بقيت (الشايلين فؤادي) و(نِغيم فاهك يا ام زين دواي) و(زمني الخاين) و( إنت بدر السماء في صفاك) و( زمانك والهوى أعانك) و( يا غصن الرياض المايد)، وغيرها من الروائع. بقي من المناضل الوطني (علي المسَّاح)... يا حمامة الغصون صداحة فوق أغصانك.. ذكِِّري لي حبيب يا حمامة مولاي صانك.. هاجت عبرتي ويا دموعي كيف حبسانك.. وين تلقي المنام يا عيوني غاب إنسانك.. مُدنِف ودَّي بيك لكن فقدت حنانك.. روحي وهيبة ليك... هى هدية طوع بنانك... حسنك مافي عجمان ولا عربانك... لو هبَّ النسيم الزاكي ميَّل بانك... أدبك خدرك الضاراك علىّْ ما بانك ... ما ضر لو أكون أنا من أحد حِبَّانك.. كم عدد المرات التي كان فيها المناضل علي المساح مستلقياً على ظهره على جوال فارغ في دكان الترزي عبد الرحيم أحمد... كم عدد تلك المرات التي كان فيها يتأمل حياته ومصيره ونهايته... هل كتب علي المسَّاح (زمني الخاين) التي يغنيها عصفور السودان ابراهيم عبد الجليل... في تلك الأحوال العجيبة... هل كتبها بخاطره، وهو يخيط الزرارير ويحيك (العراوي)... هل كتب (زمني الخاين) وقد أصبح، بعد نضاله وسجنه، يعيش بشكلٍ ما!.. قال صلاح نيازي... ما زلت أعيش بشكلٍ ما ... لا كان زمانك يا زمني...