التجربة التاريخية الطويلة للدكتور حسن الترابي في حقل العمل الإسلامي وما صاحبها من جدل استثنائي مديد، في السودان وخارجه، حيال مواقفه الفقهية والسياسية التي عممتها تحولات في عهود مختلفة، ربما كانت اليوم، بعدما جرت مياه كثيرة تحت الجسر، مناسبة قوية لقراءة الحرج الأخلاقي الذي لا يكاد ينجو منه الرجل. هذا إذا ما حاولنا إعادة تركيب صورة نهائية لمواقفه تلك، وما تردد منها بين حدود الفكر والسياسة، على ضوء معيار أخلاقي طالما ظل الترابي نفسه ينحرف عنه بقناع من الأيديولوجيا والتأويل، عبر بلاغته المعهودة وعباراته التي تضع «سرديات» هشة وقابلة للنقض الأخلاقي. مناسبة الحديث أعلاه تتصل بتصريحات «نهاية العمر» أو «حسن الخاتمة» التي أطلقها الترابي وتناقلتها صحف الخرطوم في الأيام الماضية، حيث تمنى بعد كلام طويل تحدث فيه عن المصائر الكارثية ووقائع الموت المعلن والمديد في المشرق العربي، أن لا يقع السودان في مصير كهذا: «إن الأجل اقترب، وأسأل الله الاطمئنان على حال البلاد قبل أن يتوفاني». بالرغم من أننا نتمنى للترابي طول الأجل، فإن في بنية الخطاب وفحواه ككلام أخير وخلاصة لتجربة حياتية، ما يستحق منا التأمل، ومقايسة هذا الكلام بمجمل مواقف الدكتور العامة وانعكاساتها على المصير الكارثي للسودان على مدى أكثر من ربع قرن. والحال أن ما يلائم ذلك الموقف العاطفي، وما يضخه من تسييل للمشاعر، ربما كان مناسبة قوية كي يقدم الترابي «اعتذاراً» واضحاً وصريحاً للشعب السوداني على الخطايا الأساسية لأفكاره التي مهدت للمصير الذي يتخبط فيه السودان من انقسام وحروب أهلية وفقر وتهجير وتجهيز حقيقي لكل ممكنات التدمير الذاتي للبلد في المستقبل القريب. إن قوة الحرج الأخلاقي التي تطاول مواقف الترابي، لا تتصل بممارسات التجريب الممكنة حيال قاعدة الخطأ والصواب السياسيَّيْن، وإنما تتصل في جوهرها بقدرته كمفكر قادر على رؤية الخطايا الإستراتيجية التي خاض فيها، وقادر كذلك على اجتنابها في الوقت عينه بما تتوافر عليه مكانته الفكرية والسياسية حيال مواقف تاريخية مر بها الوطن، وكان هو المسؤول الأول عن ترتيباتها، لكنه تماهى فيها مع أهواء النفس وأسباب العظمة الذاتية أكثر بكثير من شروط الموقف الأخلاقي الذي يمليه عليه ضميره كمفكر وكزعيم سياسي في الوقت ذاته. لقد شكلت أسطورة الشخصية «الخارقة» في مخياله (وهي أسطورة لعب أتباعه في صناعتها دوراً كبيراً) ما يشبه تحللاً شبه كامل من كل الاعتبارات والمقتضيات التي تستوجب منه تصحيحاً للخطأ أو اعتذاراً للشعب، من حيث كونه شخصية سياسية تشتغل في حقول الخطأ والصواب ولا تسلم من عثرات ضرورية في مسيرتها. وهذا في تقديرنا ناشئ من قناعة خاصة بفرادة ونزاهة متوهمة للدكتور عن نفسه تبدو دائماً بالنسبة إليه وإلى آخرين كما لو أنها من طينة خارقة، ليس فقط حيال مواقفه السياسية بل كذلك حيال كل ما يمكن أن يكون عائقاً دون تمرير مواقفه تلك وتبريرها، سواء كان ذلك العائق ثابتاً أو متحولاً، فالثابت الوحيد لدى الشيخ هو ذاته وخياراتها الراجحة في مختلف المواقف. ثمة إحساس أسطوري ذو نكهة سودانية يربط بين الشيخ وأتباعه (يشبه إحساس أتباع محمود محمد طه)، وثمة كاريزما يعرف الدكتور الترابي كيف يجعلها ملائمة لإثارة الجدل وفق توقيت يجيد اللعب على إحداثياته بمهارة. إنها حالة تعكس من خلال انزياحاتها المتجددة في متن الحدث السياسي السوداني، على مدى نصف قرن تقريباً، دراما تشويقية. وإذ يتواطأ الجميع على لاواقعيتها، فإنهم من ناحية ثانية لا يتخيلون مزاجاً للسياسة السودانية خارجها. هكذا، وبمثل هذا المزيج الغريب من تناقضاته المأزومة وقابلية البعض للتماهي معها بعيداً من أي قراءة نقدية صلبة ومسؤولة لمشروعه الفكري والسياسي، ظل الترابي يتخذ من الأيديولوجيا قناعاً لتغطية الحرج الأخلاقي، ومن اللعب على كلمات البلاغة العربية ونصوص القرآن بما يشبه تحللاً من ذلك الاعتذار الواجب. بطبيعة الحال، تحدث الترابي عن أخطاء التجربة وأخطاء الجماعة والحركة، لكن الغريب أنه غالباً ما تبدو تلك الاعترافات غير ذات جدوى، إذ لا تخلو من إعادة وتجديد ملامح لمواقفه القديمة، مع رفضه الثابت للاعتذار للشعب السوداني. والأغرب أن الأحزاب والقوى السياسية المعارضة في السودان غالباً ما تجد في حراكه وتصريحاته ضد النظام مناسبة للتحالف معه. أبرز هذه الخطايا: أن الترابي اليوم، وبعد أن أدرك جميع القوى السياسية اللاجدوى النهائية للحوار مع النظام، يعود إلى إبداء الثقة بالنظام ويطمع في أن يجعل «من الفسيخ شربات» كما يقول المثل السوداني، أو «من البحر طحينة» وفق المثل المصري، وهذا ما يعني بالفعل أنه ليست ثمة ثوابت لدى ذلك الزعيم والمفكر «الملهم». * كاتب سوداني دار الحياة