يستهل الكاتب أمير تاج السر مقاله («القدس العربي»، عدد يوم الاثنين 16 مارس/آذار 2015) بذكر السياق الذي جاء فيه ردا على ناقد «نشر مقالا طويلا وضع فيه أسماء عدد من الكتاب العرب المعروفين وسط القراء بغزارة انتاجهم وانتشار أعمالهم بصورة جيدة، وفيهم ظواهر تحتل مكانا دائما في قوائم الأكثر مبيعا»، مسجلا مؤاخذته على هذا الناقد، الذي لا يذكره بالاسم، لأنه بحسبه»يصف أدبهم بأنه تجاري يكتب خصيصا بإرضاء القراء بلا أي عمق ولا خلفية ثقافية» ومبرزا نتيجة دعوى هذا الناقد المجهول المتمثلة في «أن مصير هذا الأدب هو أن يندثر يوما ليبقى الأدب الحقيقي». بعد هذه التوطئة يتوقع القارئ أن يتصدى الكاتب السوداني تاج السر لدحض هذه الدعوى، لكن صاحب المقال ينصرف إلى القول بأن هناك «بعض النقاد الذين لا يشبهون هذا الناقد، ويخلص إلى أنهم «مثابرون ويحاولون أن يتواصلوا مع الكتاب من جميع الأجيال»، وينتقل بغتة للدفاع عن فكرته باعتماد ما يعرفه شخصيا، مستندا في ذلك إلى شهادة ذاتية، حيث يقول: «أعرف نقادا ليسوا من دارسي الأدب في الأصل، لكنهم مهنيون في مجالات أخرى مثل الهندسة، والقضاء والطب واتخذوا النقد هواية إبداعية». ومعربا عن ثقته وتقديره الكبير لكتابة هؤلاء مشددا على السبب «لأن كتابة هؤلاء تمنح خلاصات، بعيدا عن الجمل الكبيرة والكلمات التي تحتاج لدرج طويل من أجل ارتقائها»، ضاربا لهذا الجمع من الكلمات مثالا مفردا: «هوية النص في استجابته للتأويل، وغيرها من الجمل». لكن السبب الأهم كما يقول، وهنا مربط الفرس، أن كتابة النقاد الهواة «لا تورد اسم الروسي ميخائيل باختين، الذي يشبه حبة الكرز أو الفراولة التي توضع في منتصف (كذا) التورتة لتزيينها»، ويسترسل بنبرة لا تخلو من تهكم «كل مقال نقدي لابد فيه ميخائيل باختين»، والتشديد من عندنا للتنبيه إلى صيغة الجزم، «و أي حديث جانبي عن الكتابة في مقهى من حق باختين أن يتصدره». إذا كان السياق تهكميا، ساخرا، فإن القارئ ينتظر أن يردف الكاتب كلامه بالحديث عن الكتابة، معتمدا أمثلة مضادة ترتفع إلى مقام جاد، أكاديمي ورصين، لكن خلافا لذلك يستند تاج السر إلى ما تختزنه ذاكرته عن لقاء جمعه مرة بناقد «من دولة عربية لم يظهر فيها روائيون كثيرون رغم حب مواطنيها للآداب، حدثني مباشرة حين تعرف إليّ»؛ ويلاحظ معي القارئ إن كاتبنا لا يعتمد كتابا نقديا، أو كتبا في نظرية الرواية وما يتصل بها، بل إنه يعتمد على ما حدث، ذات لقاء أول، وبالتأكيد فالسياق المكاني لا يبتعد كثيرا عن مدار الأحاديث الجانبية التي انتقدها منذ لحظة، كما لا نرى العلاقة المنطقية بين الناقد وكلامه وأصله، وكون بلاده غير ولاَّدة للروائيين، ولا صلة النقد والرواية بحب هؤلاء للآداب. وفي كل الأحوال، فلنساير تاج السر، إذ يخبرنا أن هذا الناقد أخبره بأنه: «قرأ رواية وحيدة لي هي «العطر الفرنسي»، وهو لا دخل له في أنها ليست رواية على الإطلاق، لكن قواعد ميخائيل باختين التي طبَّقها عليها هي التي تقول ذلك. وأنه يعتذر لي بشدة، ووعدني بأنه سيقرأ لي مرة أخرى، عسى أن يرضى باختين عني في المرة المقبلة». لا يسعنا سوى تصديق هذا الخبر أو الإخبار، لكن هل يستقيم أن نأخذ بما قيل عن م. باختين الذي لم نسمع له نأمة، ولم نقرأ له في المقال كلمة أو جملة؟ هل نجعل من وثوقية ناقد عابر في لقاء عابر، قاعدة لتقييم فكر رجل ترك أثرا كبيرا في المشهد الثقافي للقرن العشرين، بشهادة كبار الخبراء في المباحث التي درسها وله فيها منجزات امتدت لأكثر من نصف قرن؟ ما ذنب باختين ولماذا يؤخذ بجريرة غيره؟ فالمفكر الروسي بريء من الصفة التي يراد إلصاقها به، أي جعله شفيعا للروائيين والكتاب واستدرار عطفه ورضاه، وهذه الصفة واضحة في العبارة التهكمية أعلاه، «عسى أن يرضى باختين عني في المرة المقبلة»، وسوف نظهر هشاشة وتهافت هذه الدعوى لاحقا، وفي انتظار ذلك، وبقدرة قادر فإن هذا الناقد المشار إليه، هو حالة خاصة، يصير ظاهرة عامة، حيث يقول تاج السر: «هذا الناقد الذي ذكرته هو معظم النقاد المتوفرين حاليا»، ومن أجل وصف هؤلاء النقاد غير الهواة يوضح صاحب «صائد اليرقات» بأن «لديهم نموذجا مكتوبا للرواية له حوش مدهون بلون معين، وأبواب ونوافذ تطل على فناء معين، وتسكنه لغة معروفة من عائلة: لم ينبس ببنت شفة، وارتعدت فرائصه، وكان عريض المنكبين، إلى آخر تلك العائلات التي لم تعد تشد للقراءة أبدا، وأيضا له مرجعية نقدية، هي ما أسسه ميخائيل باختين الذي عاش بين أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف سبعينيات القرن الماضي، وبالتالي لا بد كان خارج سياق التنظير منذ الستينيات بسبب تقدم العمر». إن المتأمل لهذا الكلام قد يتوقع مرة أخرى أن يخصص الكاتب حيزا من مقاله للمفكر الذي أتى على ذكره. لكن للأسف، مرة أخرى سوف يخيب ظنه، إذ أن الكاتب لا يزيد على ما أورده أعلاه من ذكر لتاريخ ميلاد ووفاة المفكر الجمالي وعالم الثقافة الشهير، والأشد غرابة من هذا أن الكاتب السوداني يخرج بخلاصة متسرعة من هذا التعريف الفقير والمفتقر لحدود البحث الدنيا، وذلك جلي في الصيغة الجازمة «وبالتالي لا بد كان خارج سياق التنظير منذ الستينات»، وهو بالطبع يقصد ميخائيل باختين، والحال أنه أغفل بغتة ما ذكره سابقا عن كون الرجل عمَّر إلى منتصف السبعينات، وهنا نصل إلى ما اشرنا إليه سابقا بالنقص المهول في معرفة الرجل وفكره، فالرجل ظل حتى آخر أيامه مواصلا لنشاطه العلمي، حسبما نشر من أعماله الأخيرة (1974) أي سنة قبل وفاته، وبالتالي فإن حجة تجاوز الزمن الإبداعي للمفكر أمر لا يستحق الكثير من الوقت لتبين هشاشته؛ وسيرا على جاري العادة في مقاله ينتقل الكاتب بغتة إلى موضوع آخر يرى أنه ذو صلة بما ساقه من كلام، ونحن لا نرى علاقة سببية للسابق باللاحق، حيث أنه يطرق حديث الجوائز إذ يكتب»مهما اجتهدت الجوائز المنتشرة في الوطن العربي لن نعثر إلا على القليلين الذين طوروا أدواتهم ولحقوا بقطار الإبداع الذي بات سريعا، ومن الصعب اللحاق به»، ولا يخبرنا تاج السر عن طبيعة هذه الأدوات، من أي حقل فني، نقدي، جمالي ومعرفي يتم نهلها؟ أم هل هي أدوات هندسية، قانونية أو طبية؟ لعل الكاتب على حق في مساءلة القصور النقدي والنظري لهؤلاء النقاد الذين ينتقدهم، إذ يرى أن صنيعهم ذلك سببه «الاتكاء على النموذج المعروف، ارتواء من ماء النموذج المعروف، ونوما عميقا في ظل النموذج المعروف»، وهذه حجة ظاهرة الفساد بكل بداهة، إذ لو أن تاج السر تكبد عناء البحث عن تصور ميخائيل باختين للرواية، الذي بات من أبجديات الخطاب النقدي الباختيني، لكان حينذاك عرف بأن الباحث الجمالي الروسي يصفها بأنها جنس ادبي مفتوح، غير مكتمل، وغير تام، قابل لاحتواء واستقبال أجناس خطابية متعددة ومتنافرة، وأشكال بنائية غير مستقر ولا قارة؛ والحالة هذه أن حجة تاج السر التي دافع بها عن قضيته، هي من صميم الطرح الباختيني، فالرواية لا تستقر إلى يقين دلالي أو بناء شكلي «نموذج معروف»، والكاتب السوداني هو بهذا أشبه بإحدى شخصيات موليير في مسرحيته الهزلية Le bourgeois gentilhomme، الذي يتحدث نثرا من دون أن يعلم ذلك، فهو يدافع عن دعواه بمنظور باختيني، من دون أن يفطن لذلك، وفي قوله إن «النموذج المغاير للمعروف، هو حينما يأتي مبدع حاملا نصا جديدا فيه تجريب، وابتكار وجهد في البناء المغاير والفنيات المغايرة لن يلتفت إليه أحد، وإن التفت فبالتفاتة باختين التي تطرده تماما من الإبداع». مرة أخرى يصر مؤلف «سيرة الوجع» على إقحام باختين في ما لا يد لهذا الأخير فيه. إن باختين لا يقدم وصفات للكتابة الروائية، ولا يقول للكتاب كيف يجب أن يكتبوا وعلى أي منوال ينسجون حبكاتهم. قد يقول قائل إن باختين ما هو إلا مثال عن أسماء نقدية أخرى يتم توظيفها مثل الفزاعة، إذ قد يتوسل ناقد آخر أسماء أخرى مثل لوسيان غولدمان، أو بارت أو نورثروب فراي. قد نتفق مع المنطلق الانتقادي لو أن تاج السر بيَّن بالملموس تهافت مثل هذا الخطاب النقدي الذي يفصل الأعمال الإبداعية على مقاس شبكات نقدية قبلية، وهذا موضوع تعرضنا له بالتفصيل في أكثر من موضع منذ أكثر من عقدين ولا داعي للإسهاب فيه. لعل الغاية كانت نبيلة لكن للأسف الوسيلة تشكو من فساد الحجة واعتلال في البرهان، والتجني على فكر ومفكر هو على النقيض مما ذكر، لأن باختين يثبت بما لا يدع للشك مجالا في أعماله النقدية، انطلاقه من القراءة المتأنية المتأملة للأعمال الأدبية قصد بناء صرح نظري ما يزال الدرس الجمالي والفلسفي في الغرب ينهل منه إلى اليوم، ولا أدل على ذلك من مفاهيمه وتصوراته المؤسسة على أعمال دوستوييفسكي (الحوارية، البوليفونية وغيرها) أو اعمال فرانسوا رابليه (الأدب الهزلي، الثقافة الشعبية، السخرية، أدب النجاسة، الغروتيسك وغيرها). وإذا كان من فائدة تحسب لهذا المقال فهي وضع الإصبع على آفة ابتلي بها النقد الأدبي عندنا، عربيا، وهي الاكتفاء بالقشور، وادعاء قراءة الأعمال الأدبية بمفاهيم ومقولات ومباحث لا يهضمها الناقد والمتلقي على حد سواء. ناقد أدبي ومترجم المغرب شكير نصرالدين القدس العربي