* (أطلق الدكتور حسن الترابي زعيم حزب المؤتمر الشعبي مبادرة جديدة تحت مسمى "النظام الخالف"، ووفقاً لصحف الاثنين الماضي، فإنه بمثابة برنامج سياسي جديد كبديل عن الطرح السياسي السائد الذي يتبناه حزبه. وذلك تصدياً لأزمات الواقع السياسي، باعتباره مشروعاً ل " كل التيارات ذات البرامج الاسلامية". وحسب توضيح الأستاذ كمال عمر، الأمين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي، فإن أشواقاً تحدوهم لتوحيد كل التيارات الإسلامية وليس بين المؤتمر الوطني والشعبي فقط ، متهماً المعارضة الرافضة للحوار بالسعي إلى القضاء على الإسلام السياسي، واصفاً برنامج الترابي الجديد " بالمارد القادم الذي يستطيع أن يتعامل مع قضايا الحكم في السودان بشكل ممنهج، وقال إن البرنامج هو مشروع مستقبلي فيه تأتي كل التيارات الإسلامية والطرق الصوفية والشخصيات لتؤسس منظومة جديدة تعمل في مجال السياسة والثقافة والفن والاجتماع والصحة). وتضمن برنامج الترابي الجديد تقييماً ومراجعات كاملة لتجربة الإسلاميين في حكم السودان، بتركيز على أهمية "الاستفادة من تجربة الإسلاميين، في ما يتصل بقضايا الحريات والتنوع، عبر التركيز على الإيجابيات وتطويرها وتلافي السلبيات بما يتناسب والتطور الطبيعي للحياة"، وأشارت الورقة لضرورة أن يخلف الحزب الجديد الأحزاب الإسلامية القائمة، بما فيها المؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني الذي رهنت الورقة حلّه بقيام الحزب الجديد وفي ظل نظام ديمقراطي. * أولاً لا جديد في لغة د. الترابي من ناحية الشكل، حيث تأتي مبادرته هذه المرة أيضاً مبهمة وغامضة تحت مسمى (النظام الخالف)، ورغم أن الورقة التي حوت على برنامج الترابي الجديد خلت من أي تفسير ل (للمصطلح اللغوي) الجديد، إلإ أن المعنى الأقرب للتفسير هو أن (يخلف) نظاماً جديداً لأهل الاسلام السياسي، النظام الذي يحكم حالياً وهو المؤتمر الوطني!. هكذا درج د. الترابي على إرباك الشارع السياسي في كثير من المنعطفات بمثل هذه اللغة المغتربة عن الواقع والملتبسة المعاني، حيث كان يمكن لسيادته أن يشير بوضوح دون أي التباس إلى (النظام الاسلامي البديل) مثلاً!، ولكنه – الترابي – يجترح معان وتفاسير مقصودة لذاتها حتى تخدم أغراض الابهام والبعد عن الافصاح المبين، تحقيقاً لأغراض وغايات متعددة. فقد فاجأ الساحة السياسية في بدايات إنقلابه بمصطلح (التوالي) في صدر مسودة الدستور الذي أودعته حكومة الانقاذ لبرلمانها المعين، بغرض (ديمومته)، وقد ظل الترابي في كل محاولة له لشرح المعنى، كمن يفسر الماء بالماء، ثم انفتح الباب عريضاً لمختلف التفاسير، واستمر الجدل طويلاً بين صفحات الجرائد وفي الندوات، وانشغل الجميع لزمن طويل بالمعنى المراد من الكلمة، والترابي في كل شروحاته يزيد من ضبابية المعنى، وهكذا حقق أغراضه حين شغل به الناس حيناً من الدهر، فتوزع القوم الذين التبس عليهم المصطلح بين (مفسر ومقصر)، حول المصطلح الذي كان غاية المراد منه هو مثل هذا الالتباس، وهو تحديداً ما هدف إليه المشرع، وذلك لإلهاء الناس عن المواد القمعية التي صيغت في صلب المسودة التي تم تعديلها، وتنظيم جديد لأحزاب (الفكة) الحالية من التي نراها تصطف خلف رايات المؤتمر الوطني وبرنامجه، وهي تستعد لخوض الانتخابات التي تمت مقاطعتها، من قبل أوسع دوائر الشعب والقوى السياسية المعارضة بالبلاد!. وقد كان من بين أشهر الملح والطرائف الشعبية التي انطلقت منتقدة ومتهكمة من مصطلح (التوالي)، هو ذاك الذي ورد عبر مقال لكمال الجزولي الكاتب والمحامي، عندما قارب عبر "رزنامته" الصحفية الشهيرة وقتها، هذا الأمر بإحدى نوادر العرب فروى أن سيداً متعالماً سأل خادمه ذات فجر باكر: :- أعيعلت البيلة يا غلام؟!. فأجابه الخادم: :- زخفليم!. فعاد السيد يسأل: :- وما معنى زخفليم؟!. فرد الخادم متسائلاً بدوره: :- وما معنى أعيعلت البيلة؟. فقال السيد: :- أعيعلت البيلة معناها هل صاحت الديكة!. فقال الخادم: :- وزخفليم معناها ،، نعم صاحت!. * لا جديد أيضاً في الطرح السياسي من ناحية المحتوى، فقد بدى للمهتمين بأن (مفكري ) الاسلام السياسي في السودان، وكأنهم يمشون نحو المستقبل،، ولكن في شكل دائرة!، بتحوير طفيف لمقولة الأستاذ الراحل محمد توفيق، عبر عموده الشهير بصحيفة الأيام، التي ملً فيها سماجة الأوضاع في السودان الذي يقف في محطة (محلك سر) فقال قولته التي تشير إلى (أن السودانيين يسيرون نحو المجد ،، ولكن في شكل دائرة)!. وبحيث أن زعيمهم الترابي لا يفعل في كل منعطف سوى أن يعيد إكتشاف العجلة بأكثر من صيغة، فما هو الجوهر الذي يختلف في هذا البرنامج (الجديد) عن محتوى ما سبق وطرح في كل الصيغ الماضية، إن غاية ما يصبون إليه هو الشكل والمحتوى التنظيمي (للتحالف الجبهوي)! ، وقد سبق وأن دخلوا في مثل هذا الاصطفاف الجبهوي منذ مهد الحركة الاسلامية التي بدأت بتأسيسهم لصيغة الجبهة الاسلامية في عام 1954 مع إرهاصات استقلال البلاد، وتطورت التجربة في جبهة الميثاق الاسلامي التي شهدتها البلاد عام 1965 في أعقاب سقوط الحكم العسكري الرجعي في ثورة أكتوبر 1964، ثم تم تطوير مواعينها التنظيمية مع الاستعداد لانتخابات البلاد بين عامي 1968 – 1969 عندما طرحوا مشروع الدستور الاسلامي وصيغة الجمهورية الرئاسية، وانتظمت معهم قوى وأحزاب اليمين وقتها وقد سموا مرشحهم، وذلك في مواجهة المد الجماهيري المستشرف لآفاق الديمقراطية، ولاحقاً في الجبهة القومية الاسلامية في أعقاب سقوط تجربة (إمامهم) النميري، مع انتفاضة أبريل 1985، وليس بعد في صيغة أهل القبلة التي دغدغوا بها (أشواق) أحزاب الأمة والاتحاديين، بعد أن لمسوا المقاومة الجسورة لأبناء الشعب السوداني، لمحاولات فرض واستمرار حكمهم الديكتاتوري البغيض، رغم كل ما واجهوا به هذا المد بالاجراءات والقوانين القمعية والوحشية. فما الجديد إذن في (برنامج د. الترابي الذي يبشر به مناصريه)؟!. * الجزئية الهامة التي نود إبرازها هنا، هي ماذا يفيد أهل السودان وجماهير الشعب السوداني من هذه الصيغة الجديدة التي يتغزل فيها الأستاذ كمال عمر ليصفها ب "المارد القادم الذي يستطيع أن يتعامل مع قضايا الحكم في السودان بشكل ممنهج" ؟ ،، علماً أن قضايا الحكم في السودان ومنذ استقلاله، أضحت كثيفة ومتشابكة كتشابك أشجار الغابات في مناطق السافانا!، ما هي في الأساس قضايا الحكم في السودان؟، هل تناول برنامج الترابي الجديد الذي يبشر به أهل السودان، كيفية وضع الحلول لقضايا الاقتصاد ومشكلاته المريعة بالبلاد مثلاً؟، كيفية إعادة المرافق وممتلكات الشعب المنهوبة (لسيرتها الأولى) مثلاً؟، قضايا الحروب وكيفية وقفها وتقديم المساعدات لضحاياها من النازحين والقتلى والجرحى مثلاً؟، تفشي الأمراض القاتلة وإصحاح البيئة، قضايا المأكل والملبس ومياه الشرب النظيفة، السكن وتوفير أبسط متطلبات العيش في الحدود الدنيا للبشر؟ التعليم وشؤون الحياة بكامل مفاصلها؟ مواجهة قضايا النهب والاختلاس والتعدي على ممتلكات المواطنين بوضع الأيادي على حرزهم وأراضيهم، معالجة الدمار الذي لحق بالبلاد من أقصاها لأدناها، معالجة قضايا حريات التعبير للناس وصحفهم والكف عن تكميم الأفواه وقتلها على الشوارع والطرقات وكيفية (توالي) الحكم بين مكوناته السياسية، مالكم كيف (تحكمون) يا أهل الإسلام السياسي في البلاد؟، هل تختزل كل هذه القضايا في توحد (أهل القبلة) في برنامج للترابي كمشروع مستقبلي، ثم تأتي كل التيارات الإسلامية والطرق الصوفية والشخصيات لتؤسس منظومة جديدة تعمل في مجال السياسة والثقافة والفن والاجتماع والصحة؟ ،، ماذا تعمل في هذه المجالات تحديداً؟ ،، دون أن يكون الحديث هلامياً فوق رؤوس البشر التي يعتقد أهل الإسلام السياسي أن الطير يعشعش فيها!. * تضمن برنامج الترابي الجديد (تقييماً ومراجعات كاملة لتجربة الإسلاميين في حكم السودان، بتركيز على أهمية الاستفادة من تجربة الإسلاميين، في ما يتصل بقضايا الحريات والتنوع، عبر التركيز على الإيجابيات وتطويرها وتلافي السلبيات بما يتناسب والتطور الطبيعي للحياة)، ونقول لو أن أهل الاسلام السياسي في السودان، أخضعوا ( زخم) تجربتهم بكل تفاصيلها منذ ظهورهم في الحياة السياسية السودانية، لنقد ومراجعات صارمة وجدية، واستمعوا لأصوات العقلاء منهم وهم كثر من أمثال الشيخ الجليل الطيب زين العابدين وغيره، وأتيح لذوي القدرة فيهم من (مفكريهم) وقادتهم إعمال مباضع تشريحهم للتجربة بكل شفافية، لكانوا قد توصلوا للعلة والعقبة الكؤود التي أقعدت بهم ولم يستطيعوا تقديم نموذج لمشروع (إسلامي) حقيقي، رغم الفرص التي أتيحت لهم ،، لا بل التي انتزعوها انتزاعاً بغيضاً دون وجه حق، وحالوا بين (المقتدرين) من أهل السودان وبين (الحكم الرشيد) ومعالجة قضايا العباد!. وكان للاسلام السياسي القدح المعلى في تعقيد تلك القضايا التي أدخلت السودانيين في أتون أزمات مستفحلة يتطلب الخروج منها اتفاق كل أهل السودان على صيغة توحدهم لتفضي بهم إلى كلمة سواء يتفقوا فيها عبر مؤتمر قومي دستوري على كيفية حكم السودان! . * حتى نصل في الجزئية قبل الأخيرة للآتي من برنامج د. الترابي وفيها لب المراد، حيث أشارت الورقة ( لضرورة أن يخلف الحزب الجديد الأحزاب الإسلامية القائمة، بما فيها المؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني الذي رهنت الورقة حلّه بقيام الحزب الجديد وفي ظل نظام ديمقراطي)!. إذن فإن هدف البرنامج الجديد لأهل الاسلام السياسي وفي هذا المنعطف الذي يتنادى فيه أهل المعارضة لبرامج (نداءات) (باريس) و( السودان) و (برلين) و( أثيوبيا) من أجل أن يتوافق معهم الحزب الحاكم و(توابعه) على كيفية شكل الحكم بضرورة إستصحاب الحركات المسلحة في المؤتمر القومي الدستوري من أجل وقف الانتخابات وقف إطلاق النار ووقف العدائيات، إلغاء التعديلات الدستورية، وقيام حكومة قومية تعمل من أجل إيقاف الحرب وتقديم المساعدات الانسانية للجوعى والمرضى والجرحى في معسكرات النزوح، ووضع برنامج إقتصادي إزعافي عاجل، والاشراف على وضع دستور جديد للبلاد يهدف لتفكيك دولة الحزب الواحد لصالح دولة المواطنة والتعددية ، ثم الاشراف على قيام انتخابات نزيهة، كل ذلك الجهد السياسي الذي يتم بوسيلة النضال السلمي المدني، نجد أن أهل الاسلام السياسي بزعامة الترابي، يتجاهلون مجرد الاشارة إليه في برنامجهم، وغايتهم القصوى هي ضرورة أن يخلف الحزب الجديد حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وليحل مكانه في ظل نظام ديمقراطي)، بمعنى أن يحكم هو!، دون أن يُعرف البرنامج كيفية وصول البلاد لهذا (الظل الديمقراطي)!. * وأما آخر الكلام، فهو أن المصطلح الجديد الذي شرع به د. الترابي لبرنامجه السياسي الجديد باسم (النظام الخالف) ،، يبدو أنه سيغدو في (حامض اللغة) بمثابة النظام (الوافر ضراعو) ،، و(الخالف كراعو)!. الميدان