لا أعتقد أن أي جزائري حر لا تغزو الدموع عينيه وهو يشاهد ويسمع هتافات مئات المصريين الشرفاء من شباب «ثورة 25 يناير» الذين تجمعوا الأسبوع الماضي أمام السفارة الجزائريةبالقاهرة لتقديم الاعتذار للجزائر نيابة عن الشعب المصري على خلفية الاعتداء على الحكام الجزائريين عقب اجتياح «أبوجلابية وجماعته» أرض ملعب القاهرة خلال مقابلة نادي الزمالك مع النادي الإفريقي. أكثر من 300 شخص حاملين الأعلام المصرية والجزائرية وقفوا نحو ساعتين أمام مقر السفارة تحت أمطار غزيرة غير اعتيادية في هذا الفصل من السنة، وهم يرددون «وان.. تو.. ثري فيفا لالجيري»، و «يا جزاير احنا آسفين ع اللي حصل للتحكيم»، و «مستحيل مستحيل تلعب بينا إسرائيل»، و «الشعب يريد وحدة عربية».. وغيرها. لم يسبق لي أن كتبت في موضوع الأزمة الكروية بين الجزائر ومصر، فقد كانت لي آراء ومواقف آثرت أن أحتفظ بها لنفسي، لكن الذي شاهدته من هؤلاء القلة -غير المندسة طبعا- هز مشاعري ودغدغ أحاسيسي وبعث في نفسي القدرة على سرد بعض الأفكار والوقائع التي كنا في غنى عنها -كجزائريين ومصريين- لو أننا فقط حاولنا أن نتقبل بعضنا كما نحن من دون مزايدات؛ فقد اكتشفت أننا شعوب تحكمها العاطفة أكثر من أي شيء آخر، ويمكن لكلمة طيبة واحدة أن تغير ما بداخلنا. لقد لاحظت حجم التفاعل مع هذا التجمع أمام السفارة الجزائريةبالقاهرة في المنتديات ومواقع الصحف فوجدت أنه شيء مذهل.. الذي يَبكي والذي يُكبِّر والذي يهتف.. قمة الوعي والتضامن والتفاهم. سبحان مغير الأحوال قبل أشهر قليلة تجمع المصريون في نفس المكان وحرقوا العلم الجزائري وطالبوا برحيل السفير.. وفي الضفة الأخرى كانت المؤسسات المصرية تحترق في الجزائر، وكان موظفوها يرغمون على الاختباء في بيوتهم.. والسبب أن غيرنا كانوا أشطر منا واستخدموا تلك العاطفة في غير موضعها، فحدث ما حدث. ظاهرة الاجتياح ظاهرة لا تقتصر على الملاعب في مجتمعاتنا العربية، تعرضنا لاجتياحات سياسية وعسكرية وثقافية، وابتدعنا لها حلولا فورية، فلماذا لم نجد الحل لاجتياح الملاعب؟ رغم أن الذي حدث في القاهرة لم يكن رغبة «مصرية مية بالمية» على رأي «مودرن سبور»، وإنما كان خطة من بقايا النظام البائد لإفساد عرس عربي آخر، وعلى أن الذي حدث يحدث في أحسن العواصم، فإنني أود المشاركة في إيجاد حلول لهذه الظاهرة. وأعتقد أن الحل أن يتم حفر خنادق بين الجمهور ومستطيل الملعب بعمق خمسة إلى عشرة أمتار، تليها منطقة ألغام مضادة للأشخاص مثيري الشغب من أمثال أبوجلابية وأبوبرنس وأبوطربوش تمتد ثلاثة إلى أربعة أمتار، وبعد الألغام أسلاك شائكة مكهربة عبارة عن منطقة محرمة على أعداء الأخلاق والأمة، وبعدها تشكيلة من الشرطة والجيش والدرك ببنادق ورشاشات جاهزة للإطلاق بالرصاص الحي.. لكنني أعتقد أنه من دون تدريس الجماهير مادة جديدة في المؤسسات التربوية حول «ثقافة الملاعب» يستحيل التحكم في هذه الظاهرة فقط من خلال الحلول الأمنية. لا أذيع سرا إذا قلت إن الإعلام لعب الدور الأكبر في استفحال الأزمة الكروية بين الجزائر ومصر، وهو الذي أوصد كل أبواب التسوية، مع أن الذي حدث لم يكن ينقصه -في تقديري وقد أكون مخطئا- إلا اعتذار بسيط من جماعة زاهر وشحاتة ومن والاهم، بأن الذين اعتدوا على حافلة اللاعبين الجزائريين لا يمثلون الشعب المصري ولا كرمه ولا ضيافته، لكن أعداء الأمة بالأمس وأعداء الثورة اليوم تمسكوا بطبعة «الكاتشب» ليحولوا لقاء كرويا إلى عداء شعبي، وكان يمكن أن ينتهي لو أن الحاج روراوة، الذي كان يهودي الأصل آنذاك، استمع لنصائح الفيفا وقرر عدم خوض مباراة القاهرة ليفوز بالنقاط الثلاث دون عناء ودون الذهاب إلى «موقعة أم درمان» وما نتج عنها من تفاقم خطير. لكن في النهاية يبقى الاعتذار وحده سيد الأدلة في مواقع مثل هذه، يجب ما قبله ويرسم الطريق لما هو آت من دون الاستدارة إلى الخلف، لأن طلب الاعتذار عند الخطأ من شيم الرجال، وقبوله من شيم الكرماء. وبين الرجولة والكرم شعبان عربيان تحكمهما علاقات متشابكة تتجاوز بكثير علاقات الأمومة والأبوة. كان أكثر ما يغيظ المصريين ويزعجهم عندما يقولون إن «مصر أم الدنيا» ويرد عليهم الجزائريون «.. ونحن أبوها»، و«.. وتباً لدنيا أمها مصر».. لكن اليوم، الثورة فعلت فعلتها في أبناء النيل، فصاروا يرددون شعارات جزائرية!! الثورة فعلت فعلتها أيضا في الجزائريين لأنها طردت «التعويذات السحرية» التي علقها مبارك وأبناؤه على صدورهم أيام أزمة الكرة، وأدركوا أن جري علاء وجمال ومن والاهما في الملاعب وعبر الفضائيات لم يكن من أجل مصر ولا من أجل شعبها، وأن أكذوبة السودان كانت مشهدا في فصول مسرحية التوريث التي قضت عليها الثورة، وأن سب الشهداء في بلد مثل الجزائر ليس بالأمر الهيّن، فهل يعقل اليوم بأن يأتي أي جزائري من الغوغاء والدهماء والذين في قلوبهم مرض ويشتم شهداء ثورة 25 يناير، كيف سيكون الرد في مصر.. بل كيف سيكون الموقف في الجزائر؟ لمصر شهداؤها وللجزائر شهداؤها، لمصر أعداؤها وللجزائر أعداؤها، ولم تكن ثورة الجزائر لتنجح لو لم تقرر «التخلص» من أعداء الثورة، فإذا لم تقم مصر بتنقية أجواء ثورتها من هؤلاء سنشهد اجتياحات أخرى في الملاعب وكل الميادين التي ينمو فيها «اللعب». يقيني أن مصر الثورة متفطنة يقظة متأهبة متجددة.. لكن عليها أن تثبت من جديد أنها «أم» بأن تحتضن أبناءها الذين هجروها والذين قاطعوها وأهملوها ولا تسامح الذين وقفوا ضدها أو ناهضوها.. على مصر أن تعيد الروح لهذه الأمة بقراراتها الثورية ومواقفها القومية.. عليها أن تعيد قطار العرب إلى سكته التي انحرف عنها، عندئذ سيقول الجميع وبدون استثناء: «تباً لدنيا لم تكن أمها مصر».. أعتذر على العنوان، وما دمنا في عصر الاعتذارات، فقد كان لشد الانتباه لا أكثر ولا أقل. [email protected] Email العرب القطرية