شعر سيلفيا بلاث ونيلغون مرمرة يدخل في خانة الشعر الاعترافي الذي يسعى إلى بلوغ الأنا عن طريق ملامسة العقل الباطن والاشتباك معه. العرب مثلما ذهبت سيلفيا بلاث إلى موتها هادئة لم تصرخ نيلغون حين هوت من الأعالي في العام 1987، وهي لمّا تتجاوز التاسعة والعشرين بعد، رمت نيلغون مرمرة بنفسها من شرفة بيتها في الطابق السادس، فماتت على الفور. كانت صاحبة "قصائد مضروبة على الآلة الكاتبة"، قد تخرّجت من دائرة اللغة الإنكليزية وآدابها، من جامعة بوغازيتشي، بأطروحة، كتبتها بالإنكليزيّة، عن شعر الأميركية سيلفيا بلاث. كانت "الحافّة" آخر قصيدة كتبتها سيلفيا بلاث، قبل ستة أيام من انتحارها بالغاز. وعلى تلك "الحافة/الشرفة" وقفت الشاعرة التركيّة نيلغون مرمرة، ثم طارت. كانت حافّة سيلفيا هي حافّة نيلغون التي "لفحتها الرياح". حافّة المرأة التي ترفض العالم، المرأة التي "تكتب الشعر، وتأخذ حياتها بيدها". ولأنّ الموت، عند سيلفيا بلاث، هو "فنّ، كأيّ شيء آخر"، فإنّ طيران نيلغون من تلك الشرفة العالية، هو تجسيد عدميّ لذلك الفن: "أشتهي تحليقةً/جناحًا في مثّلثِ السماءِ كي أصيرَ هباءً". ولقد كان: هبطت "خفيفة كريشة نورس″، صوب النوم في "الثلج الأزليّ"، وصوب "القرمزيّ" الذي يطوّق طائر نفسها، لامعًا في المرآة التي خلفه، إلى "الأرض الضخمة ذات القدمين الكبيرتين". الموت والولادة أرض الموت الذي هو الولادة، موت الذين "أجّلوا آلامهم طويلًا"، وولادة الذين طاشوا في "المُشاكِس″، كي تحيا القصيدة "عنفها الخالص"، منشقّة منه، طافرة في الرّغائب التي تتكسّر على حواف النوم. ومثلما ذهبت سيلفيا بلاث إلى موتها هادئة، لم تصرخ نيلغون حين هوت من الأعالي. وكيف لامرأة أتقنت "فنّ" موتها أن تصرخ. وأنّى لها! وهي التي تدرك بأنّ ما هو "بعيد المنال/يلفظ اسمها" بكثير من الحُبّ. هل كانت، في تحليقتها تلك، تقرأ تلك الأبيات التي كتبتها سيلفيا بلاث ذات يوم: "لا بُدّ أن نلتقي في حياة/أخرى، لا بُدّ أن نلتقي في الهواء، أنا وأنت"؟ أو تلك: لا بُدّ أن أستعيد روحي/منك؛ إنني أقتل جسدي/بدونها"؟ الشعر الاعترافي لأنّ الموت، عند سيلفيا بلاث، هو "فنّ، كأيّ شيء آخر"، فإنّ طيران نيلغون من تلك الشرفة العالية، هو تجسيد عدميّ لذلك الفن ينتمي شعر سيلفيا بلاث ونيلغون مرمرة إلى ما بات يعرف، في الدوائر الأدبيّة، بالشعر الاعترافي، شعر التجربة الشخصيّة الذي لا يسعى إلى "القبض على جوهر الأنا فحسب، بل إلى محاولة بلوغ تلك الأنا أيضًا" عن طريق ملامسة العقل الباطن والاشتباك معه. هنا، تصبح القصيدةُ نَفْسَ كاتبها: منعكسة، عميقًا، في داخله، منغمسة في تلافيف روحه، وخارجة، من بين أضلاعه، مهتّكة ستائر نفسه، على نحو أشدّ عمقًا، وأكثر عنفًا. نظرتُ في سيرة الشاعرتين، فوجدت أنهما تتقاطعان في نواح عدّة: تزوجت سيلفيا من تيد هيوز وهي في الرابعة والعشرين (1956)؛ وتزوّجت نيلغون من كنعان أونال وهي في الرابعة والعشرين أيضًا (1982). كانت سيلفيا قد التقت بتيد في إحدى الحفلات التي أقامتها جامعة كمبريدج، فيما التقت نيلغون بكنعان في حفلة أقامها أحد أصدقائها. عاشت نيلغون مع كنعان في بيت واحد، خارج مؤسسة الزواج التي كانت تعارضها بشدّة، واقفة بصلابة وحزم ضدّ عائلتيهما، ولكنها رضخت، في النهاية، إلى تلك الضغوط. ولا تنتهي التقاطعات عند هذا الحدّ، وإنّما تذهب إلى ما هو أبعد، باتّجاه مولد الشاعرتين وموتهما: ولدت سيلفيا في 12 أكتوبر (1932)؛ فيما انتحرت نيلغون في 13 أكتوبر (1987). انتحرت سيلفيا في 11 فبراير (1963)؛ فيما ولدت نيلغون في 12 فبراير (1958): أيّ أن تاريخ مولد بلاث يسبق تاريخ انتحار مرمرة بيوم واحد، وتاريخ انتحار بلاث يسبق تاريخ مولد مرمرة بيوم واحد أيضًا-فأيّ مصادفة غريبة، هذه (!) التي جعلت من "الواحد-المُفرد"، بما له من دلالات عدّة، هو ذاك الذي يفصل بين موت شاعرة وحياة أخرى، وحياة شاعرة وموت أخرى: وليس أكثر من هذا "الواحد" كي يدلّ على فردانيّة حياة الشّاعرتين عذابًا، وفردانيّة مصيرهما المشترك، انتحارًا، أيضًا. نيلغون مرمرة: وحيدة في ملهى ليلي طائري وأنا أنا وطائري في المرآة ننام، قفصنا سريرنا ووجهانا رفيقان متقابلان تحت ثلج أبديّ. ننام طائري وأنا أنا ورفيقي مربوطان بخيط قرمزيّ موثقان ببعضنا ثمّة فرح بالفقر، ونحن متّحدان لا شيء في المرآة سوى هذا الوثاق رفيقي القرمزيّ الغيور طائري وأنا. ****** أغنية البجع قصائدي، أغنيات البجع قبل الموت أسرار الهزيع المتشحة بثياب سوداء لحياتي المتدحرجة كل ألم أجّلته طويلًا يتكسّر الآن، والأغنية الجديدة تبدأ. - هذي القصيدة - ومثلما تتمايل حياتي وأوصالي المجهولة لا بُدّ أن أظلّ صديقة لنفسي ولكم جميعًا لأنها انشقّت من المشاكس من الرغبة العظيمة التي تكسّر نومها. - هذي القصيدة - لو أنّها تأخذ فتنتها من سلامة النيّة ثم تحيا عنفها الخالص الفضاء الهادئ للأشياء الجميلة التي لا أستطيع صنعها الانعكاس المطيع لما هو بعيد المنال ينادي اسمك بكلّ الحُب! ****** بلا عنوان تاريخ مولد بلاث سبق تاريخ انتحار مرمرة بيوم واحد المرأة التي سفعتها الرياح تدير كتفًا باردة للكلب القانط المرأة التي تكتب الشعر، وتأخذ حياتها بيدها المسافرة الأنثى في صنعة إيروس المرأة المتفتّحة المرأة الصاخبة المرأة التي في الحديقة المرأة التي على طاولة في ملهى ليليّ المرأة التي في النافذة المرأة التي بصيغة الجمع المرأة التي تهدهد الطفولة في حجرها خفيفة كريشة نورس كزنبقة صحراوية المرأة المتكسّبة التي تنهض من الزبد عند مطلع الفجر متعبة من البغاء. ****** سيلفيا بلاث: وحيدة في شارع منتصف الليل عبور الماء بحيرة سوداء، قارب أسود، وشخصان أسودان قُدّا من ورق. إلى أين تمضي الأشجار السوداء التي تشرب هنا؟ لا بُدّ لظلالها أن تغطي كندا. الضوء القليل يرشح من أزهار الماء. لا ترغب أوراقها في أن نسرع: إنها دائريّة ومسطحة وطافحة بمشورة ماكرة. عوالم باردة ترتعش من المجداف. روح الزّنوجة فينا، إنها في الأسماك. جذع يرفع يدًا شاحبة، موّدعة؛ النجوم تتفتّح بين الزنابق. ألم تعمك جنيّات البحر التي لا تعابير لها؟ هذا هو صمت الأرواح الذاهلة. ****** حافة نيغون مرمرة امرأة كتبت الشعر وأخذت حياتها بيدها المرأة مكتملة. جسدها الميّت يرتدي ابتسامة مأثرة ما، وهم ضرورة إغريقيّة يجري في لفائف ردائها الواسع، كأنّ قدميها الحافيتين تقولان: لقد وصلنا إلى هذا البُعْد، كفى. كل طفل ميّت مُلتفّ، ثعبان أبيض، واحد عند كلّ إبريق حليب صغير، والآن فارغ. لقد طوتهم إلى جسدها ثانيةً كبتلات الوردة قريبًا حين تقسو الحديقة والأرائج تنزف من الحناجر الطيّبة العميقة لزهرة الليل. لا شيء يحزن القمر من أجله، محدّقًا من قلنسوة عظامها. لقد اعتادت على هذا الشيء. أشياؤها السوداء تطقطق وتجرجر.