تشكل تنظيم داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، بعد احتلال الولاياتالمتحدة للعراق في عهد الرئيس جورج بوش في 2003م بحُجة امتلاك صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل، وذلك من فصائل إسلامية سنية ووطنية. فقد دخلت أميركا في حلف استراتيجي مع الأكراد الذين قامت بحمايتهم في وقتٍ مبكرٍ وساعدتهم في السيطرة على إقليم كردستان العراقي، واستطاع الشيعة بحكم أغلبيتهم العددية ودعم إيران لهم ووحدة قيادتهم الدينية أن يسيطروا على الساحة السياسية، وبقي السنة في العراء دون سلطة سياسية أو دعم دولي مما دفع بأبنائهم إلى أحضان المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأميركي ثم ضد الحكومة الطائفية الشيعية في عهد نوري المالكي (2006-2014). كانت الفصائل الإسلامية بمسمياتها المختلفة وتحت قيادات متعددة هي الأبرز في المقاومة المسلحة، وحاول حزب البعث المحظور التقرب من الفصائل الإسلامية بحُكم أنهم يحاربون عدواً واحداً هو الاحتلال الأميركي وقدم دعماً مقدراً من السلاح والمال لتلك الفصائل، وانضم إليهم عدد من مسرحي الجيش العراقي الذي فككته الإدارة الأميركية في العراق دون إدراك لعواقبه الوخيمة. كان من تلك الفصائل الإسلامية: "جماعة التوحيد والجهاد" التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي، "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين" التي بايعت أُسامة بن لادن، "جماعة أنصار الإسلام" ذات الأصول الكردية، جبهة النُصرة السورية وغيرها. توحدت تلك التنظيمات تحت مسمى "الدولة الإسلامية في العراق"، وبعد أن دخلت الساحة السورية مؤخراً استخدمت إسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) والتي التحقت بها من خارج المنطقة جماعة مجاهدي سيناء المصرية وأنصار الشريعة في ليبيا وتونس واليمن. وأخذ التنظيم بُعداً دولياً خارج العالم العربي حين ارتبطت به حركة "بوكو حرام" في نيجيريا و"الحركة الإسلامية في أزواد" بشمال غرب مالي، ونسبة للتطور الجديد اعتمد التنظيم في النهاية إسم "الدولة الإسلامية" فقط، وإن سار عليه إسم داعش بين الناس وفي الإعلام. يتبع التنظيم أفكار السلفية الجهادية الذي عُرف عن تنظيم "القاعدة"، ويهدف إلى إعادة الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة، وقام بإعلان الخلافة في 29 يونيو 2014 بقيادة أمير المؤمنين أبوبكر البغدادي. ويحارب التنظيم من يخالف آراءه وتفسيراته الدينية ويصفهم بالردة والشرك والنفاق ويستحل دماءهم وممتلكاتهم، ويتشدد في معاملة الأقليات الدينية الذين يجوز قتلهم وسلب ممتلكاتهم وسبي نسائهم، ولا يتورع من تصوير القتل بطريقة بدائية قاسية والإعلان عنه، واستهدف بتفجيرات انتحارية مساجد الشيعة في السعودية والكويت واليمن. ومن الناحية اللوجستية تبنى تنظيم الدولة الإسلامية سياسة "مسك الأرض" لإعلان الإمارة عليها، على عكس ما درج عليه تنظيم القاعدة، واستطاع التنظيم الذي استفاد كثيراً من الإنشغال الدولي بثورة الربيع العربي أن يسيطر بالهجمات الخاطفة على عدة مدن معظمها في مناطق السنة تقهقرعنها الجيش العراقي، ثم مساحة واسعة في سوريا التي يبدو أن جيش النظام السوري أخلاها قصداً لتسيطر عليها داعش فتدخل في صدام مع المعارضة السورية المسلحة. واستطاعت داعش أن تحقق تلك الانتصارات المدوية لأنها تمكنت من بناء جيش قوي ومنظم وذو دافعية عالية، ويمتلك أسلحة متطورة كسبها من عتاد الجيش العراقي المنهزم. وانضم لداعش آلاف المجندين من شتى أنحاء العالم لأنهم يرون فيها رمزاً لمقاومة الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي الضعيف، ونداً صلباً لقوى التحالف الدولي الذي تقوده أميركا في العراقوسوريا على داعش.وتمكنت داعش من تمويل هذا الجيش الكبير عن طريق الرسوم التي تتحصلها من التجار وشركات الاتصالات ولكن أهم مصادرها كانت من بيع النفط في الحقول التي سيطرت عليها جنوب غرب الموصل. والسؤال الذي نود الإجابة عليه هو: كيف استطاع هذا التنظيم بأفكاره المتطرفة وسلوكه الدموي العنيف أن يجتذب بعض أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة التي لا تعاني فقراً أو تهميشاً أو اضطهاداً، وليس فقط في بلاد العالم الثالث ولكن حتى في داخل أوربا وكندا وأستراليا وروسيا وأميركا؟ لقد تبنت المملكة المتحدة قبل سنوات عديدة استراتيجية شاملة لمحاربة التنظيمات المتطرفة الإرهابية وفي مقدمتها داعش ركزت فيها على حماية الشباب المسلم الذين يقعون ضحية سهلة للدعاية التي تبثها داعش عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي في الشبكة العنكبوتية العالمية. ومنذ البداية قفز عدد المشتبهين لتقبل تلك الدعاية من المئات إلى الآلاف، والتحق في سنوات قليلة حوالي ثلاثة آلاف أوربي -معظمهم بريطاني الجنسية- للقتال مع داعش في سوريا. قال الباحث الأميركي في علم الاجتماع، الدكتور اسكوت أتران ( Scott Atran)، الذي درس ميل الشباب إلى أعمال العنف في عدة أقطار من العالم، إن الشباب الذين ينضمون لداعش لا يعرفون الكثير عن الإسلام؛ ولكنهم شُربوا من الدعاية الذكية التي تبثها عبر وسائل الاتصال أن المسلمين أمثالهم مستهدفين بالإعدام من قبل الكفار إلا إذا بادروا هم بإعدام الكفرة والمرتدين. وقال إن المسح الذي جرى في فرنسا لعينة واسعة من الشباب كشف أن بين كل أربعة منهم هناك واحد (أي 25%) يتعاطف مع داعش رغم اختلاف أديانهم. وقالت له فتاة فرنسية من أصول عربية: إنها لا تشعر بأنها عربية أو فرنسية وسيُنظر إليها دوماًًً بشُبهة، لذلك تختار تنظيم الخلافة الذي يعمل لإنشاء وطن لكل المسلمين يجمعون فيه كل مواردهم حتى يكونوا أقوياء مرة أخرى ويعيشون في عزة ومنعة! قال موقع "جلوبال بوست" في تقرير له عن جاذبية داعش للشباب: إن المقاتلين الأوربيين الأجانب متواجدون بأعدادٍ كبيرة في صفوف الدولة الإسلامية، وأن العديد من هؤلاء الشباب يأتون من الطبقة الوسطى ويتمتعون بإمكانيات معيشية ممتازة. ويجذب التنظيم الشباب المسلم لأنه يعطيهم بديلاً مثيراً وهادفاً للحياة غير السعي لتحقيق الراحة المادية والأمن الاقتصادي، فالرفاهية الاقتصادية والاعتدال السياسي لا يسيران دائماً جنباً إلى جنب كما تقول الآيدولوجية الليبرالية، وتعاني الديمقراطية الغربية من مشاكل مع إمكانية أن تكون جزءاً من آيدولوجية شاملة تقدم معنى راقياً لحياة الفرد. وأحسب أن إزدواج المعايير الغربية في تطبيق الديمقراطية يقدح في صدقية الغرب ومدى التزامه بقيم حقوق الإنسان التي ينافح عنها في المنابر الدولية. فالشباب يتطلع إلى فكرة عظيمة تستوعبهم جميعاً وتشركهم في مجتمع من المؤمنين المتشابهين في الميول والأفكار مع هدف الأخوة بين الناس. وقد قال جورج أورويل في مراجعته لكتاب "كفاحي" لأدولف هتلر ذو الطابع العرقي:إن البشر لا يريدون فقط الراحة والسلامة ولكنهم ينشدون أيضاً النضال والتضحية بالنفس ناهيك عن الطبول والإعلام ومسيرات الولاء. وتقول آرين ميري المتخصصة في قضايا مكافحة الإرهاب بوكالة الصحافة الفرنسية: إن جيل الشباب البريطانيين يواجه صعوبات في صنع هوية خصوصا في مجتمع يخضع للعولمة حيث تتشابك الهويات. وينصح الباحث اسكوت أتران، في دراسته البحثية عن أسباب تعلق الشباب بالعنف، بتقديم السلطات المعنية ثلاثة شروط لجذب الشباب من دائرة العنف والاستبداد: تقديم شيئ للشباب يجعلهم يحلمون بحياة لها معنى عن طريق النضال والتضحية بروح الزمالة مع الآخرين؛ تقديم حلم إيجابي شخصي للشباب له فرصة محددة في التحقق؛ تقديم فرصة للشباب لخلق مبادراتهم المحلية الذاتية. وكما يبدو من تحليل هؤلاء الخبراء والباحثين أن الميل لدى الشباب إلى الالتحاق بجماعات العنف والقتل والاستبداد له أسبابه الفكرية والنفسية والاجتماعية التي تحتاج إلى دراسات عميقة في البيئة المعنية، والدخول في حوار طويل متبادل مع هؤلاء الشباب من كل المحيطين بهم. فالأمر جد خطير ويحتاج إلى معالجة علمية جادة تتسم بروح الحب والتسامح والتفاهم. التغيير