مازالت سيرة الشاعر الفرنسي الراحل لويس أراغون تستهوي العديد من الكتّاب، لما فيها من متعة أدبية كبيرة وتفاصيل تعدّ حتى الآن غامضة تجذب إليها كل باحث في سيرة هذا الشاعر اللغز، والكتاب الذي يشغل، هذه الأيام، مختلف وسائل الإعلام الفرنسيّة هو سيرة جديدة لهذا الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس على مدى الشطر الأكبر من القرن العشرين بعنوان "أراغون"، وقد أنجز هذه السيرة التي جاءت في أزيد من 900 صفحة الأكاديمي والروائي والناقد الأدبي فيليب فورست، الذي أمضى سنوات عديدة يقلب في تضاريس تاريخ الثقافة الفرنسية وفي جميع تجلياتها للبحث عن كلّ شاردة وواردة تتصل بصاحب "عينا إلزا". العرب حسّونة المصباحي يعتبر الشاعر لويس أراغون، من أهمّ الشعراء الفرنسيين وأبرزهم على الإطلاق، حيث خاض معارك عديدة شعريّة وثقافية وفكرية وسياسية وغيرها. يقول أراغون "أغنّي لكي يمضي الوقت/ قليل ما تبقّى لي من الحياة/ كما لو أنّنا نرسم على الجليد/ كما لو أنّنا نسعد القلب برمي الحصى في المستنقع/ أغنّي لكي يمضي الوقت"، هذا مقطع من قصيدة "الرواية غير المكتملة" التي يستعرض فيها الشاعر الفرنسيّ لويس أراغون (1897-1982) فصولا من سيرته الذاتية انطلاقا من طفولته مرورا بسنوات شبابه وحتى بلوغه خريف العمر. أراغون اللغز في نهاية كتاب "أراغون"، الصادر عن "منشورات غاليمار" الفرنسية، يعترف فيليب فورست قائلا "إن السير غالبا ما تكون في النهاية تمارين منهجيّة للتعبير عن الإعجاب أو عن الكراهيّة. غير أنني أعتقد أن هذا لا ينطبق على حالة كتابي المخصص لسيرة أراغون الذي ظلّ لغزا بالنسبة إليّ بعد كلّ ما قمت به من أبحاث في شأنه. كلّ ما أستطيع قوله هو أنه بإمكاني أن أدرك الآن الأسباب التي تحول دون فهمي له". لقد عاش أراغون تقلبات كثيرة في حياته. فقد أمضى طفولته تحت رعاية والدته الجميلة التي انفصلت عن والده وهو رضيع لينمو وهو يشاهدها منصرفة إلى قصص العشق التي كانت تعيشها بشغف كبير. وفي سنوات شبابه، انضمّ إلى الحركة السوريالية مظهرا ميولا إلى الأنارخية. وفي مطلع ثلاثينات القرن الماضي، انتصر للشيوعية، وزار ما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي معبّرا عن إعجابه بتجربته الاشتراكية، ومادحا الدور التاريخي لستالين غاضّا الطرف عن ملاحقة هذا الأخير للمثقفين والمعارضين، وعن قتله للكثيرين منهم، أو إرسالهم إلى معسكرات سيبيريا الرهيبة. وقد ظلّ أراغون وفيّا للشيوعية حتى نهاية حياته. اشتهر هذا الشاعر أيضا بقصائد الحب الرائعة التي خصصها لزوجته الروسية إلزا، والتي ضمّها ديوانه الضخم الموسوم ب"عينا إلزا" والذي يظهر فيه شغفه بالشعر العربي الوجداني، وبالحضارة العربية الإسلامية المتجسّدة بالخصوص في جانبها الأندلسي المتميّز بالرقّة واللطافة وحبّ الحياة. الدوار السوريالي يقول فيليب فورست "هناك كلمة تخترق كلّ أعمال أراغون وتحضر فيها بقوة، سواء كانت هذه الأعمال شعرية أم نثرية كما هو الحال في رواياته الشهيرة مثل "فلاح باريس" و"أوريليان" Aurélien هذه الكلمة هي: الدّوار. وكتب ذات مرة يقول "أن يكون المرء إنسانا يعني أن يتمكن من أن يسقط دائما وأبدا". وكان يتحدث أيضا عمّا سمّاه ب"الدوار السوريالي". وخلال الزيارة الأولى التي أدّاها إلى الاتحاد السوفييتي تحدث عن"الدوار السوفييتي". و"الدوار" يعني له في نفس الوقت الرضوخ لنداء الفراغ، والصمود أمامه لكي لا يبتلعه العدم. وكان أراغون مسكونا بالموت؛ لقد حاول أكثر من مرة أن يضع حدّا لحياته. وقد اعتبر ميّتا عام 1918. وفي عام 1940، خلال إنزال "دانكارك"، نجا من الموت بأعجوبة. وفي كلّ مرّة ينجو فيها من الموت، كان يشعر أن جزءا منه يموت. وقد عيّن لويس أراغون في الثلاثينات من القرن الماضي، أي خلال فترة صعود النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، رئيسا للاتحاد العالمي للكتاب الثوريين خلال المؤتمر الذي انعقد في موسكو نهاية عام 1930. وعن ذلك كتب فيليب فورست يقول «لم يكن لسواد عيني أراغون الذي لم تكن تنقصه لا الموهبة ولا الجاذبية لكي يقبل الاتحاد العالمي للكتاب الثوريين، الموقف الذي كان يدافع عنه، والذي كان متوافقا مع سياسته. والحقيقة أنه لم يكن غافلا عن ذلك. وتشهد على حدة تبصره الرسالة التي كان قد أرسلها إلى أندريه بروتون. وهناك أدلة واضحة على أنه تقبل "الصفقة" التي عرضت عليه وهو واع بذلك تمام الوعي، متراجعا عن بعض النقاط في موقفه، والتي كانت تحتم عليه الاعتراف بسلطة الحزب الشيوعي، والتملص من كل من فرويد وتروتسكي، وفي نفس الوقت من نظرية بروتون. وقد فعل ذلك لأنه كان يشعر أنه سوف يحقّق انتصارات في المجال الأساسي، والحصول على الاعتراف للحركة السوريالية بأنها القوة الثورية الحقيقية الوحيدة، والتي كانت هذه الحركة تطمح إلى الحصول عليه منذ سنوات عديدة. لكن هل كان أراغون ينتظر أن يتمّ استقباله استقبال المنتصرين الكبار عند عودته إلى باريس في نهاية شهر ديسمبر 1930؟». ويضيف فيليب فورست قائلا "إن إلزا تريوليه لم تكن هي التي دعت أراغون إلى الشيوعية كما زعم الكثيرون من أصدقائه ومن أعدائه الكثيرين. فقد كانت إلزا تظهر نفورها من البلاشفة، ومن الستالينية. لذا كانت هي أول من دعا الفرنسيين إلى اكتشاف سولجنستين. مع ذلك لم تكن تخفي إعجابها بغوركي وبماياكوفسكي". كما يشير فورست إلى أن "أسطورة" عشق أراغون لإلزا لا يمكن أن تخفي -بأي حال من الأحوال- أنه كان أحيانا يعيش معها فترات كئيبة، تعكسها قصيدته التي يقول فيها "ليس هناك حب سعيد في المطلق".