أخذ، حين جلسة بجوار إحدى بائعات الشاي، يعيد على مسامع صديقه ما تهامست وجهرت به المدينة وأصقاع الريف: "الحصل شنو في موضوع حاويات المخدرات؟"، قبل أن يرد عليه صديقه أردف بسؤال آخر: "حاويات المخدرات ياتها الجديدة ولا القديمة؟"، لتكتمل كبابي الشاي وقد تحول الحديث بينهما إلى حلقة نقاش كبيرة اجتذبت إليها الجالسين بجوارهما، دون أن تغلق أقواس التساؤلات على إجابة شافية، مع حقائق غائبة في قضايا لم تفك الجهات الرسمية طلاسم القديم منها إلى أن جاء الجديد، ومثلها تقف قضايا التجاوزات في المال العام شاهدة على الواقع حين يأتيه التعدي من بين يدي منسوبي المؤسسات الحكومية بالباطل، معلومات تضج بها صفحات تقرير المراجع العام في كل عام وهو يضع سفر أدائه في مهمة البحث عن الفساد والتجاوزات في المال العام، وملفات تتكدس بها أرفف المحاكم وسوح القضاء في قضايا المال العام أو حاويات المخدرات وغيرها من القضايا، دون أن تتكشف أو تعلن أسماء المتورطين في تلك الجرائم أو تصل حتى أبسط القضايا لمتهم أو متهمين حقيقيين يعلمهم الجميع لتخرج القضايا من دائرة توصيف "تقييد ضد مجهول!". 1 من سوء حظ الحكومة أو من حسن حظ المجرمين المتورطين في ارتكاب مئات القضايا، أن ذاكرة الشارع السوداني ليست بالمثقوبة ولا يمكن أن يتسلل منها النسيان والتساؤل عن مصير آلاف من القضايا تسود بها صفحات الصحف وتنسرب سريعاً في أوساط مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي، حين تحدثهم النشرات المكرورة من إدارة مكافحة المخدرات أو الجمارك بوزارة الداخلية والموصوفة تصرفاً من بعض الصحف، بتفاصيل جديدة، عن ضبط شحنة جديدة محملة بأطنان من المخدرات، من عجب تتجاوز المضبوطات الكيلوهات إلى كميات لا تقاس إلا بمقدار الحاويات التي جاءت معبأة داخلها أصناف المواد المخدرة، بين يدي كل حاوية مخدرات جديدة تكشف عنها سلطات المكافحة، تجتر المجالس الحديث عن ماذا جرى في الحاويات التي تم ضبطها قبل ذلك؟ وتتفتق التساؤلات تترى وتبحث عميقاً لتتجاوز ما تتبرع به الجهات الحكومية الرسمية عن أرقام ومبالغ تلك الحاويات وحمولتها بالأطنان إلى التساؤل الحقيقي (لمن تتبع شحنات وحاويات المخدرات التي تدخل عبر بوابة ميناء بورتسودان المدججة بأطقم الحراسة والحماية، ولمصلحة من تأتي هذه الحاويات ومن هو المستفيد منها؟)، لتقف أمام التساؤل الحقيقي: كيف تمضي إجراءات الكشف عن تفاصيل تلك الحاويات؟ لتأتيك الإجابة مرتدة من تصريحات المسؤولين الحكوميين المتكررة أن السلطات المختصة تواصل التحري مع المشتبه بهم ووعود بكشف الحقائق في غضون أيام، لتمضي الأيام والأشهر ومع ملاحقة وسيل أسئلة لا ينفك، تطلق تلك الجهات سراح بعض المعلومات وتفصح عن أعداد من تسميهم متهمين أوقفتهم على ذمة التحقيق لشبهات تورط في إدخال هذه الحاوية أو تلك. 2 بالعودة إلى الوراء فإن حادثة ضبط (5) حاويات من حبوب (الكبتاجون) المخدرة في أبريل من العام الماضي بميناء بورتسودان، لا تزال ماثلة، رغم ما يشبه حالة التعود مع تكرار سيناريو ضبط الحاويات، خاصة بعد تبرئة المحكمة للمتهمين بوصفهم مخلصين جمركيين لا علم لهم بما تحويه الحاويات من مخدرات باعتبارها جوالات من الذرة الشامية تم التصديق على استيرادها من قبل السلطات المختصة، ولم تفلح السلطات الأمنية في الوصول إلى مستوردي الشحنة الذين ظلوا بعيدين عن أعين العدالة، وكان وزير الداخلية السابق عبد الواحد يوسف في ذلك الوقت قد صرح بأن الكميات ضبطت في (5) حاويات معبأة بالأعلاف ودست المخدرات وسطها، وخرجت حينها وزارة الداخلية وكشفت عن توقيف (11) متهماً في قضية حاويات المخدرات، وثار لغط سياسي واتهامات لمسؤولين وشخصيات بالتورط في القضية الأمر الذي اعتبرته الداخلية مجرد شائعات، ومضت الأشهر دون أن تتكشف أي حقيقة، ومع انتظار الحكومة أن ينتهي صدى ضبط الحاويات الخمس عادت مجالس المدينة لتفاجأ بحاوية جديدة في منتصف أكتوبر الماضي من العام الحالي بضبط شحنة مماثلة تعد الأخطر لما تحويه من أنواع وأصناف المخدرات المدمرة (هيروين، كوكايين، أفيون) وأخرى تخليقية غير متداولة بلغت نحو (645) كيلو مخبأة داخل ثلاجات ديب فريزر قادمة من لبنان، وهي ذات الدولة التي تم استيراد الحاويات الضجة منها، وكانت مصادر قد أعلنت عن اكتشاف المخدرات بالميناء الجنوبي بولاية البحر الأحمربورتسودان، والحاوية استوردتها إحدى الشركات من لبنان كشحنة مبردات استخدمتها للتمويه ووصلت إلى الميناء منذ أغسطس الماضي، وجرت إجراءات الكشف الجمركي على محتوياتها لتخليصها جمركيا بوساطة معاوني أحد المخلصين، وقبل أن تفصح السلطات عن حقيقة تلك الحاويات، كانت خمسة عشر يوماً هي الموعد الفاصل عن ضبط حاوية جديدة عبر ذات المعبر (ميناء بورتسودان) حيث ضبطت السلطات ببورتسودان حاوية أخرى محملة بالحبوب المخدرة والفياجرا وحبوب الهلوسة وحبوب تسمين أبو نجمة مخبأة داخل كراتين (بامبرز) في الميناء الجنوبي بالبحر الأحمر، وأن الحاوية دخلت باعتبارها تحوي مستلزمات طبية وعند الكشف على محتوياتها عثرت سلطات الجمارك على (108) كراتين حبوب مخدرة، الحاوية كانت مشحونة من إحدى دول الخليج، وشرعت السلطات في إجراء تحريات واسعة للوصول إلى مستورديها وتقديمهم للعدالة. 3 كميات المخدرات التي وجدت طريقها إلى الدخول عبر ميناء بورتسودان لم تجد مجالس المدينة حيالها سوى إطلاق النكات والتهكم. ضبط المخدرات وأموالها التي اشتريت بها قد لا يشكل المحور الفارق للمواطن العادي بقدر ما يتوجس خيفة من وصول هذه المخدرات إلى أيدي من يهمه، ابنه كان أو شقيقه أو صديقا يعنيه أمره، مخاوف تبددها الجهات الرسمية بدفوعات تكون هي الأخرى مثاراً للتساؤلات، حين تنفض الحكومة يدها عن أي صلة من قريب أو بعيد بالحاويات وتقول إن الحاويات تعني جهات يجري التحقيق معها ليتحول السودان إلى مجرد معبر تمر خلاله المخدرات إلى دول أخرى. ولكن يبقى التساؤل مشروعاً لأنه ومنذ القبض على الوكيل المكلف بتخليص الحاويات الخمس في ميناء بورتسودان وما تبعها من حاويتين لم يظهر أي ذكر لاسم الشركة مالكة الحاويات ولا أسماء أصحابها، ما يشير إلى أن (فقه السترة) ربما وجد طريقه إلى قضية المخدرات وتقييد الفاعل (ضد مجهول). اليوم التالي