حمور زيادة كاتب سوداني استطاع أن يلفت إليه الأنظار ويثير شهية القارئ للبحث عنه منذ صدور روايته «الكونج» (2010) تبعتها رواية «شوق الدرويش» الفائزة بجائزة نجيب محفوظ عام 2014 لتترشح ضمن القائمة الأخيرة للبوكر. ما يميز حمور زيادة تلك القدرة على التصوير حتي لكأن القارئ يشاهد الأحداث أمام عينيه، حمور زيادة يوكل لشخوصه مهمة سرد الأحداث ليعفي نفسه من مهمة الراوي العليم. ولعل هذه حيلة يتخذها ليتجنب السرد الكثير من ناحية، وليظهر محايدا وهو الذي لا تخلو رواياته من بعدها التاريخي والتوثيقي. ولعل رواية «شوق الدرويش» أنموذجا للرواية التاريخية والتوثيقية والأدبية التي استطاع من خلالها الكاتب تمرير فترة تاريخية مهمة من تاريخ السودان (الثورة المهدية) اعتمد فيها على جملة من المرجعيات الدينية, الإسلامية والمسيحية، إضافة لتوظيف الشعر الشعبي والشعر العربي الكلاسيكي ضمن البنية السردية. ■ «شوق الدرويش» لا يمكن اعتبارها رواية تاريخية سياسية، ولكن لا يمكن أيضا أن نتجاهل أنها تقدم فترة زمنية تبدو غامضة للقارئ العربي وهي فترة «الثورة المهدية», التاريخ كان خلفية المسرح الروائي أم العكس؟ □ التاريخ بلا شك هنا هو خلفية المسرح الروائي، لكنها خلفية أظنها مناسبة جداً، فللحديث عن التطرف والإيمان واليقين والحب والعلاقة مع الآخر تبدو فترة المهدية من أكثر الفترات ثراء وتشويقاً. كان من الممكن اختيار مسرح آخر أكثر حداثة، لكنه كان سيفقد كثيراً من الجمال الروائي الذي توفره فترة الدولة المهدية. أما المجهود المبذول في تجميع المعلومات فهو في رأيي أمر طبيعي يجب أن يتوفر في أي رواية أياً كان مسرحها وزمانه. ينبغي على الروائي أن يتوفر على معرفة كاملة بالعالم الذي يكتب عنه، ويقدم ذلك للقارئ. ■ قوبلت الرواية بالكثير من الترحاب والإعجاب عربيا، ومازالت حتى بعد إعلان فوز «الطلياني» بالبوكر، نستطيع أن نقول إنها فازت ببوكر الجمهور، عكس ذلك في السودان إذ اتهمت كثيرا وقوبلت بالكثير من النقد لماذا؟ هل هو لبس واختلاف في رؤى حول فترة تاريخية مهمة في تاريخ السودان؟ أم هو واقع الكاتب في حد ذاته، إذ أن الكثير من الكتاب العرب يلقون الترحاب خارج بلدانهم في حين في بلدانهم هم مجهولون تقريبا. □ أظن أن الأمرين ينتميان لجذر واحد. تلقي الكاتب بالترحاب خارج وطنه غالباً ما يكون سببه تخلص القارئ الخارجي من محمولات قومية كثيرة تعيق الحكم الموضوعي داخلياً. واحدة من هذه المحمولات هي فكرة «ماذا قلت عنا للآخرين»، فكلما لقي عمل أدبي ترحاباً خارجياً، زادت الحساسية المحلية لأن هناك مجتمعات تؤمن بالسترة، وأننا يجب أن نقدم صورة حسنة عنّا للآخر، هذه الصورة الحسنة ليست الإبداع ولا نقد الذات ولا تشريح المجتمع، إنما هي صورة دعائية قائمة على التمجيد، حدث هذا حتى مع «الطلياني» بعض التونسيين كتب أنها لا تعبر عن المجتمع التونسي، ويحدث هذا طول الوقت مع كثير من الأعمال الأدبية. يظن البعض في أوطاننا أن دور الروائي أن يسوق بلاده بشكل دعائي، أن يكتب للعالم عن ميزاتها وأمجادها، في تقديري أن هذا أمر خاطئ. ■ الرواية تجسيد لما جرى في ثورة المهدي، لكأنها امتداد لما يجرى الآن، هذا اليقين المفرط في الإنسان، الكل يمتلك الحقيقة، السياسي رجل الدين...الخ بطريقة ما كأنها تلامس الواقع الحالي عن طريق سرد الماضي, كيف استطاع حمور الإمساك بالخيط التاريخي وتماهيه مع واقعنا اليوم؟ □ لا أظن الخيط كان واهياً لأعجز عن الإمساك به، على العكس إنه ليس خيطاً، إنه سلسلة من الحديد الصلب واضحة للعيان، منطقتنا مازالت تعيش أزمات القرون الماضية ذاتها، لقد علقنا في لحظة تاريخية لا نستطيع تجاوزها. في منطقتنا مازال الصراع السياسي حول من يحكم المدينة عقب وفاة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، يشكل معسكرات صراع سياسي اليوم بين السنة والشيعة، بعد ألف وأربعمئة عام، ومازال الخلاف حول خلافة أبي بكر أم علي، وصراع الهاشميين والأمويين يحدد شكل الصراع السياسي في المنطقة. مازالت الخلافات بين الدول قائمة على مواقف حدثت في القرون الماضية. الدولة الفلانية ساعدت المستعمر على غزو الدولة العلانية قبل 200 سنة، هذه صراعاتنا السياسية، وكذلك صراعاتنا الفكرية. ■ بعد عقود من التنوير والحداثة مازالت مجتمعاتنا تخوض جدلا حول حقوق المرأة وهل هي متساوية مع الرجل فعلاً؟ أليس حجم دماغ المرأة أقل من حجم دماغ الرجل. نحن مازلنا نعيش في التاريخ، ونعيد إنتاجه في دورات لا تتوقف. □ الرواية منهكة جدا، التنقل في الزمان (طريقة القفز إلى الوراء من التكنيكات الكتابية الصعبة والجميلة في آن) /الشخصيات مربكة /الأحداث كثيرة ومتشعبة / الاقتباسات، كيف استطاع حمور زيادة تجاوز ما قد ينتج هذا من تباطؤ في النسق السردي، من دون أن يجعل القارئ يصاب بمرض (الملل) خصوصا أن الكتاب من الحجم الثقيل نوعا ما. ■ هل حقاً نجحت في جعل القارئ لا يصاب بالملل؟ لا أعرف..هذا أمر سعيد لو أنه حدث.. ليس هناك أبهج للكاتب من أن يقال له إنك حاولت تقنية صعبة ونجحت فيه. ماركيز رغم كل نجاحه ظل يأسف على أن رواية «خريف البطريرك» لم تقرأ كما أراد وأرهقت القارئ. □ السودان يبدو بعيدا كعرب لم يصلنا منه إلا القليل من الطيب صالح إلى أمير تاج السر وعبدالعزيز بن بركة، وأخيراً حمّور زيادة بروايته الأخيرة «شوق الدرويش» عمل يعتبر فاصلة في السرد السوداني في زمن العجز والشعور باللاجدوى، وفي ظل تحولات كبيرة نقلت المنطقة عامة من وضع لوضع هل مازالت الكتابة قادرة على حمل هذا الثقل الذي يسمى إنسانا؟ أم أنها اتخذت مكانها القصي بعيدا عنه محاولة رسم عالمها الخاص. أعتقد أن الكتابة قادرة على البقاء وحمل أثقال البشر، فهي ليست اختياراً. هي قدر. لذلك لابد أن تبقى ولابد أن تنجح. الكتابة تحمل الأفكار، تنقحها تغربلها. الكتابة هي الإنسان ذاته. بلا كتابة ما نحن؟ ■ أين يمكن أن نضع الرقيب من كتابات حمور زيادة، خصوصا أن أغلب أعمالك تلامس الواقع وتفترض حقيقة ما ألا وهي الحرية، الحرية في مطلقها وعلى اتساعها؟ □ لا أؤمن بالرقيب. أؤمن بالحرية المطلقة، حرية الكاتب في أن يكتب ما يشاء وحق القارئ أن يقرأ ما يشاء ويترك ما يشاء. لا أقبل الرقابة الحكومية ولا المجتمعية، والأخيرة برزت بقوة في مجتمعاتنا مؤخراً. لا أظن أن من حق شخص – كائناً من كان – أن يملي على الكاتب ما يكتبه ولا أن يملي على القارئ ما يقرؤوه أو يتركه. ■ اليوم وفي ظل العديد من الأسماء التي اقتحمت الساحة الثقافية العربية جالبة معها السودان بثقافته المتنوعة وألوانه الكثيرة وخصوصيته الفنية الجمالية، هل نستطيع أن نقول إن الأدب السوداني خرج من خانة الهامش وأخذ مكانته بين الثقافات العربية الأخرى؟ □ اعتقد أننا مازلنا هامشاً. لكن ربما نتحرك إلى الأمام بثقة، لست سعيداً طبعاً بأن تكون الأسماء السودانية المعروفة عربياً محصورة في أسماء قليلة، لكن الثقب يتسع في جدار العزلة ويعبر منه آخرون. قبل 5 سنوات ربما لم يكن هناك سوى أمير تاج السر وهناك ليلى أبو العلا، روائية سودانية مميزة تكتب بالإنكليزية في بريطانيا، ثم اكتشف القارئ العربي بركة ساكن وتتوالى الأسماء..لن تدوم هذه العزلة طويلا. ■ في قراءتك للرواية وتجلياتها في خضمّ هيمنة الصورة؛ إلى أين تتجه الرواية؟ والرواية العربية بالذات؟ □ أظن الرواية تصالحت مع خصمها الحديث، السينما. لفترة بدا أن السينما تهدد عرش الرواية. ربما مازال الخطر قائماً ولم تحسم المعركة تماماً. خاصة في العالم الغربي، حيث قوة وضخامة إنتاج الصورة. لكن عربياً أظن الكتّاب – خاصة الشباب منهم – استطاعوا التصالح مع السينما وكتابة السيناريو. فأخذت الرواية العربية منحى الشكل السينمائي. مقاطع صورية مكتوبة في سرد متصل. لكن تقييم ذلك متروك للنقاد. فهذه ساحتهم. ■ في قراءة سريعة للكثير من الروايات العربية اليوم ثمة انجراف نحو السرد الكثير، الرواية في خلاصتها أحداث، فلماذا تجرونها نحو اللغة؟ □ عن نفسي لست ممن يحبذون جر الرواية إلى التهويمات اللغوية. أنا مؤمن بالحكاية. وأعتبر اللغة خادمة للحكاية في الرواية. لا أكتب لأستعرض مهارات بلاغية، إنما أستخدم البلاغة لتقديم حكاية ممتعة. وأعتقد أن الرواية المثقلة بالفلسفات والتهويمات اللغوية تذوب من ذهن القارئ مع الوقت. بينما تبقى الحكاية والشخوص المبنية بجودة. المصدر: القدس العربي