اليوم، لن تنصب الخيمة المكتوب عليها (أفراح الشعب) في باحة المنزل المتسع لضيوفه، ولن تتراص السيارات أمام المنزل لحضور الاحتفال، ولن تأتي الخطابات الممهورة بتوقيع مكتب الإمام للصحفيين أن تعالوا لحضور الاحتفال، ولن يرتفع صوت المغني يصدح بنضالات الأنصار كما يفعل كل عام، لن يحدث أي من تلك الأشياء الراتبة، لأنه لا يمكن للمهدي أن يحتفي بعيد ميلاده الثمانين من أم درمان، فهو في وضع أشبه بالمنفى، وسيبدأ عامه الجديد هذه المرة من مصر، حيث يقيم إمام الأنصار هناك منذ مغادرته البلاد بعد خروجه من سجن كوبر، الذي دخله نتيجة تصريحات صحفية تتعلق بقوات الدعم السريع، ومن ثم توقيعه على اتفاقات سياسية مع الحركات المسلحة في العاصمة الفرنسية باريس، ما جعل من إمكانية عودته إلى البلاد على درجة من الصعوبة في الوقت الحالي، وهو المشهد الذي سيؤدي لغيابه عن منزله في أم درمان اليوم، وبالتالي فقدان من اعتادوا الاحتفال معه في هذا اليوم له. عامان على التوالي وأبومريم يمارس فضيلة استعادة تفاصيل عام مضى خارج البقعة هناك، أيضاً في القاهرة تجري الاستعدادات على قدم وساق للاحتفال بثمانينية الإمام في الأراضي المصرية، يحتفي به هذه المرة كل أبناء الوادي، وربما يعيد تكرار أنشودة المصير المشترك ويحاول إعادة رسم سيناريو وحدة أهل الوادي. ثمة اتفاق عام على أن الثمانيني كتب اسمه بأحرف من نور في تاريخ السياسة السودانية، فلا يكاد يذكر أي حراك سياسي إلا وكان حزب الأمة حاضراً والحزب في كثير من الأحيان لا يستطيع الفكاك من سطوة (الإمام). في العام 2009 كان الصادق المهدي يقول في مثل هذا اليوم (أنا حزين، لكني لست يائساً)، كان المهدي وقتها يتحدث في حفل محضور أقيم بمناسبة عيد ميلاده، وهو تقليد جرت عادة المهدي أن يقيمه مع آل بيته في كل عام بمنزله بالملازمين، وتحضره طائفة من أحباب الإمام وآخرون من المكونات المختلفة للمجتمع السوداني.. يأتون للاستماع لكلمة المهدي في عامه الجديد، يقول عن تلك اللحظة: "أكثر من مجرد ذكرى للتباهي الشخصي، وتقديم الهدايا وجعل صاحبها أو صاحبتها محط الأنظار، فهي نوع من الترف الاجتماعي الضار لو تمت كذلك، لكنها مناسبة لوقفة مع الذات من باب (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، ومن باب تقديم كشف حساب ومساءلة، فهي حميدة، فالنقد الذاتي أكبر وسيلة للبناء عرفها الإنسان". هكذا ينظر الإمام لذكرى الاحتفال بميلاده محاولاً فيه الربط بين الخاص والعام، بغية الوصول إلى نتيجة تفضي إلى الاستقرار في بلاد ظل يمارس فيها العمل السياسي لأكثر من نصف قرن، هي وقفة مع الذات يتم فيها جرد حساب لما حدث في العام الماضي، وما يمكن أن يحدث في العام المقبل ولكن الأمر لا يمضي دون حق التساؤل: ترى كيف هو شعور الإمام الآن مقارنة بواقع العام 2009؟ مؤكد أن البلاد التي يوقع بأنه آخر رئيس شرعي لها، ليست هي ذات البلاد التي يبحث عن توقيع جديد ينقلها من حالة الاقتراب من الانهيار نحو حالة الاستقرار المستحيل، في ظل ما هو ماثل من أحداث ووقائع. حين ارتفعت راية الوطن عالية خفاقة بأيادي الأزهري والمحجوب، كان الصادق فتى في العشرين من عمره، مؤكداً أنه بحكم النشأة والارتباط ظل مهتماً بالشأن العام وغارقاً في المشهد السياسي، فالشاب حفيد المهدي الكبير صانع أول مجد لحكومة سودانية كاملة السيادة، ربما لهذا التواصل يمكن قراءة ستينية الوطن مع ثمانينية الإمام، يقول محبو وأنصار الصادق إنه ما من رجل تكاملت فيه قيم السودانية وسماتها الشخصية، مثل ما توفرت للإمام، ويصفونه بالوجه السوداني المشرق. الرجل الذي حاول توظيف القديم من أجل صناعة المستقبل، يمضي إلى ما يريد بتسامح كتب عليه صنع عند الإمام، وهو وحده الذي يعرف طريقة خلط مقاديره، لا يهمه في ذلك توصيفات الأعداء بأنه (متردد) ويهاب الإقدام بابتسامة منه يخبرهم (الفش غبينتو خرب مدينته)، يحاول جهده صناعة بقعة السودانيين الجديدة وفقاً لقيم الخير المحبة الديمقراطية وقبول الآخر وبعيداً عن فلسفة الإقصاء، وكأنه يحمل عيون (الزرقاء) يخبرهم بأنه يرى ما لا ترون ويخاف الصوملة واللبننة والحالتين السورية والليبية في الخرطوم. في ثمانينيته القاهرية، الإمام أُحيط بأبنائه المنقسمين بين السلطة والمعارضة، ويفسر بأن (الديمقراطية) تعني أن يمضي كلٌ في طريقه الذي اختاره، وتعني أن لا حجر، حتى وإن كان ذلك بفقه (الأبوة) يخاطب رئيس وزراء السودان في الثمانينيات الخرطوم بلسان الشريف حسين "خرطوم يا مهد الجمال ودرة الأوطان عندي أنا كم أخاف عليك من شوقي وتحناني ووجدي لما أذاعوا عفوهم.. وتخيروا (المنفيين) بعدي.. هرعوا إليك ضعافهم وبقيت مثل السيف وحدي"، لكن سيف الصادق غمده هنا في الملازمين وسيعود إلى (جفيره) بقول صاحبه ذاته، وهو يقول بأن أوان عودته قريب، ولكنه مشروط بإعادة رسم المشهد السياسي وكتابة حروفه بمداد سوداني مكون من خليط الكل حركات مسلحة وقوى سياسية مدنية وبعيداً عن سيطرة مجموعة بعينها على البلاد. فالسودان لكل السودانيين، وإنه لا يصح إلا الصحيح، وإن على السلطة أن تنزل من برجها العاجي، وأن تشتري المستقبل بعد أن أضاعت ماضي وحاضر السودان بإصرارها على نهجها الأحادي في التعاطي مع القضايا الوطنية. شمعة جديدة يوقدها الإمام بعيداً عن الوطن، مؤكد أنه سيذكر فيها حالة التوافق بين المسيح عليه السلام ومولده، ستتزامن هذه المرة مع ميلاد المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، مؤكد أن أمدرمان ستفقد إمامها في مثل هذا اليوم، وسيعيش الشارع هدوءً غير معتاد، وللمرة الثانية توالياً سيفتقد الصحفيون والإعلاميون مشهداً يصلح حبراً للكتابة وشهادات كان ينطق بها الكثيرون في حضرة رئيس الوزراء، مؤكد أن الوسائط الإلكترونية ستبعث بكلمة الإمام عند عامه الثمانين، وستتناول كل القضايا (ابتداءً من داعش وحتى أزمة الغاز في شوارع الكلاكلة)، ومؤكد أن هدفها الشعب الذي سيردد في سره (سنة حلوة يا جميل)، ويكملون أنه بعد ستين عاماً لم يبق للوطن خد شمال يمكنه استقبال كف جديد.. فقط سيقول قائلهم بلسان الحال: "سيدي الإمام؛ ساهم بما تبقى لك من عمر في كف الأذى عن شعب أنهكته الحروب والهجرة والأوضاع الاقتصادية وتكتيكات السياسة اليوم التالي