بداية وقبل أن يعترض معترض لا يمكن أن تكون ترجمة فيلم «The Martian» العربية «المريخي» (ليس فقط لانها تبدو على وزن البطيخي، وإنما لان فيلما بهذا الاسم لن يشاهده احد، فما بالنا بأن يقرأ عنه نقدا أو شيئا بالمرة). وبصرف النظر عن ركاكة الترجمة، فإن «المريخي» يوحي بأننا نتحدث عن مخلوق فضائي قادم من المريخ لونه أخضر أو بنفسجي وله قرون استشعار كما يحلو لأفلام الخيال العلمي الرخيصة تصويره. وثالثاً لأن موضوع الفيلم وقصته وبطله، كما سيتضح بعد قليل، هو تحديدا عن إنسان عائد من المريخ. وقد آثرت أن استهل مقالي بتوضيح هذه المسألة لأذود عن نفسي شبهات أي سوء فهم محتمل. «العائد من المريخ» مأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته للكاتب اندي فيير نشرها عام 2011 في حبكة درامية ممتعة، يدور الشطر الأعظم من أحداثها ما بين الفضاء الخارجي، أو داخل سفينة فضاء سابحة فيه، وبين كوكب المريخ بصحبة رائد الفضاء «المفقود» (القصة تستدعي من الذاكرة مباشرة مسلسلا تلفزيونيا أبهرنا صغارا بعنوان («مفقود في الفضاء»Lost in Space)، «واتني» (مات ديمون)، ومن أن لآخر يعود بنا الفيلم إلى الأرض، وتحديدا في أروقة «ناسا»، وكالة أبحاث الفضاء الأمريكية. لا توجد في الفيلم مخلوقات فضائية إذن، لا من المريخ ولا أي كواكب أخرى، فكل أبطاله من البشر الفانين، ورغم أن موضوعه جاد جدا إلا أنه أثار دهشة الكثيرين داخل هوليوود وخارجها، حين فاز بجائزة «غولدن غلوب» كأفضل فيلم كوميدي أو موسيقي لمخرجه ريدلي سكوت، وجائزة أفضل ممثل (أيضا في فيلم كوميدي أو موسيقي) لبطله مات ديمون. مضيف حفل توزيع الجوائز تلك الممثل الكوميدي البريطاني ريكي غرافييز سخر من هذا التصنيف، وهو أمر قد يكون دافعه أن جمعية النقاد والصحافيين الأجانب في هوليوود، المانحة للجوائز، أرادت تفادي المنافسة بينه وبين فيلم «العائد» The Revenant الذي فاز بعدة جوائز بينها أفضل فيلم درامي ( ومرشح ل12 جائزة أوسكار). والفيلم من ناحية أخرى وإن كان دراما جادة إلا أنه ليس مأساويا بالتأكيد، كما أن نهايته سعيدة على نحو هوليوودي مألوف (سيتعجب البعض على سبيل المثال كيف تسنى لبطله أن يحل كل المعضلات الحياتية اليومية التي واجهته، من نفاد الطعام عبر زراعة بطاطس في صوبة نياتية داخل موقع المهمة، وان يحول غاز « hydrazine» بحرقه إلى ماء للشرب، وقطع رحلة على سطح المريخ لمئات الأميال على متن مركبة « rover» قام بتعديلها لتناسب رحلة طولها 3200 كيلومتر، بحثا عن مواد مدفونة مخصصة لرحلة مقبلة للمريخ، وغيرها من معضلات علمية «مريخية» يعجز عقلنا الأرضي المتواضع عن إدراكها، وقد كتبت له النجاة من كل هذه الأهوال في النهاية على غرار الأبطال الخارقين)، وهذا في حد ذاته من شأنه أن يغفر تصنيفه في باب الكوميديا، فالنهايات السعيدة هى من أبرز سمات الكوميديا بالمعني الأكاديمي والتقليدي. وعلاوة على ذلك فإن المخرج البريطاني (صاحب أفلام شهيرة مثل «المصارع» The Gladiator، و»هانيبال» حقن الفيلم بحس كوميدي في تناوله للأحداث، رغم طبيعتها الجادة جدا، التي تصل في لحظات كثيرة إلى حافة الهاوية المأساوية. وحمل عبء التناول الكوميدي (على نمط يشي بالحس الإنكليزي الساخر المضمر أو الكامن) ببراعة بطله «ديمون». رحلات المريخ.. ذهاب وعودة نحن في زمن مستقبلي قريب صارت فيه الرحلات إلى الكوكب الأحمر دورية وشبه اعتيادية (على غرار رحلات الطيران المكوكية لندن- بيروت أو حتى مصر إسكندرية ذهابا وعودة) يتابعها جمهور الأرض عبر شاشات التلفزيون كنوع من الأخبار المسلية، أو أحد مسلسلات الواقع الافتراضي. والبداية من موقع هبوط سفينة الفضاء «هيرمس Hermes» ( اسم لا يخلو من دلالة ، فهو رسول الآلهة عند الإغريق) في مهمة إلى المريخ لم تكد أن تكلل رحلتها بالنجاح هبوطا حتى تضطر قائد السفينة رائدة الفضاء «لويز» جسيكا تشاستن، لإصدار الأوامر بإلغائها فورا، بسبب هبوب عاصفة رملية كاسحة تهدد الجميع بخطر ماحق. ينقلب الجو المرح المستخف الذي افتتح به الفيلم عبر تبادل طاقم السفينة النكات من تحت خوذاتهم الفضائية احتفالا بالهبوط الناجح، إلى أزمة فضائية ضاغطة. وفي خضم الهرولة لإلغاء المهمة وبدء إجراءات الانطلاق مجددا للعودة إلى الأرض يقع الحدث المأساوي، حيث يتعرض «واتني» لإصابة بهوائي شارد لأحد الأجهزة جراء العاصفة الرملية تطرحه أرضا فاقدا الوعي، فلا تجد قائدة المهمة لوبيز مفرا من الرحيل بدونه، بعد أن افترض الجميع أنه فارق الحياة ولم تعد فكرة استعادة جثته تستحق المخاطرة بحياة الجميع. في غضون دقائق نكتشف أن «واتني» حي يرزق ويكتشف هو أنه بات وحيدا شريدا على الكوكب الأحمر. لكن الفيلم يحتفظ لنا نحن الجمهور بهذه المفارقة الدرامية التي تحقن متعتنا بجرعة إضافية من التشويق والإثارة. فالجميع من رفاق الرحلة في السفينة التي تمخر الآن عباب الفضاء في طريقها للأرض، وأيضاً مركز القيادة والتحكم في ناسا يعلمون أن أحد رواد السفينة سقط ضحية «فداء للوطن» على سطح المريخ. لكن المفارقة لا تستمر طويلا فالصدفة وحدها ستقود أحد العاملين في الطاقم الأرضي للمهمة لاكتشاف أن الرائد المفترض ميتا لايزال حيا يرزق، حين تظهر صور الأقمار الاصطناعية آثار نشاطات يقوم بها قبل أن تتلقى منه رسالة عبر الكومبيوتر، وسرعان ما تعقب الرسالة الخطية رسائل صوتية ومرئية بعد أن ينجح «واتني» في إصلاح ما أفسدته العاصفة من وسائل الاتصال بالأرض، بعد رحلة مضنية على سطح الكوكب تمكن خلالها من استرداد معدات فضائية دفنت في موقع رحلة سابقة قبل أن يعود سالما إلى ملاذه داخل مركز المهمة على سطح المريخ. من المركز الأرضي إلى الرائد «واتني» هنا يبدأ تبللور الصراع الدرامي «الفضائي» المثير جدا للفيلم على ثلاثة محاور. المحور الأول هو إقامة الاتصال الدائم والفعال بين مركز التحكم الأرضي والرائد «واتني» المفقود أو الذي «سقط سهوا» على سطح المريخ. موقف درامي مأزوم تلخصه أغنية «وحيد في الفضاء» Space Oddity، من أشهر أغاني دافيد بويي، الموسيقي والمغني الذي رحل مؤخراً بعد يوم ميلاده التاسع والستين بيومين، مع فارق أساسي أن «واتني» وحيد على المريخ. وحتى الآن لم يتم إبلاغ طاقم سفينة الفضاء بالخير السعيد والمربك في الوقت ذاته، خاصة بالنسبة لقائدة المركبة لويز، التي تشعر بتأنيب الضمير بوصفها المسؤولة عن تركه هناك، بعد أن افترضت موته. وعليها الآن اتخاذ قرار في غاية الصعوبة يحدد مصيره: هل ينبغي إنقاذه وهو ما يعني عودة سفينة الفضاء مجددا إلى المريخ. وهذا في حد ذاته قرار محفوف بمخاطر ومجاهيل عديدة. فما العمل إذن؟ بعد مداولات ومشاورات وجدل حاد داخل أروقة «ناسا» تتركز خاصة بين مدير الوكالة ومدير برنامج المهمة المريخية، تثار فيها جملة أسئلة أخلاقية وعلمية فضائية حول المخاطر واحتمالات الفشل والنجاح، في الوقت الذي تكون فيه وسائل الإعلام متسلطة على المشهد المأزوم على مدار الساعة (كما هو الحال في كل الأزمات الأمريكية). المحور الثاني المحفوف بكل أنواع المخاطر يتمثل في قدرة الرائد الوحيد على البقاء حيا على المريخ وإلى متى تحديدا على فرض أن قرارا اتخذ لإنقاذه. هذا في الحقيقة هو الجزء الأكثر إثارة وإمتاعا في الفيلم الذي تقضيه بصحبة «واتني» في مركز المهمة على المريخ. لحسن حظه- وحظنا- يتصادف أن يكون «واتني» عالما في النباتات، إلى جانب كونه مهندسا ميكانيكيا فيبدأ صراعه من أجل البقاء بزراعة طعامه بعد أن يقدر أن مخزون الطعام في مركز المهمة سيكفيه بضعة أسابيع فقط مع التقتير الشديد. وهذا يعني تحويل جزء من مركز المهمة إلى صوبة أو حقل اصطناعي لزراعة نباتات، خاصة بطاطس مريخية مع كل ما يكتنف تجارب المحاولة والخطأ تلك من مواقف مضحكة وأخرى محبطة ولحظات يأس وخوف من موت محقق، لا يجد البطل مخرجا للتغلب عليها أو على الأقل التأقلم معها إلا السخرية اللاذعة في لحظات تدفعه ليصب جام غضبه على «المريخ اللعين». وأيضاً وهذا هو الأهم من خلال تدوين يومياته لتكون شاهدا لأولئك الذين سيعثرون عليها من زوار المريخ القادمين والأجيال التالية، خاصة بعد أن يدرك أن موته محقق، (كدأب الإنسان دائماً مهموم بفكرة تخليد ذكراه كأبرز حيله للتصالح مع الموت). يستقر الأمر في مركز القيادة الأرضي في وكالة ناسا أولا على إبلاغ طاقم السفينة بالخبر السعيد على أن يترك أمر تقرير مصير زميلهم ساكن أو سجين المريخ، بين أيديهم فيكون وقع الخبر عليهم رائعا باستثناء قائدة المركبة لويز، التي تشعر بتأنيب الضمير بوصفها المسؤولة عن تركه هناك بعد أن افترضت موته. ولا تضيع لويز وقتا هو بالتأكيد ثمين للغاية في التفكير وتلجأ لخيار ديمقراطي بسؤال رفاق الرحلة من طاقم السفينة، فيقررون بالإجماع العودة لإنقاذ زميلهم. هذا رغم المخاطر العديدة التي يدركونها جميعا، وأولها أن ذلك يعني بقاءهم في الفضاء لشهور عدة إضافية، حيث سيقطعون رحلة العودة للأرض ويتجهون مجددا للمريخ، مع احتمالات نفاد الوقود والمؤن. هناك أيضاً مغامرة عدم ضمان أن يظل «واتني» على قيد الحياة طوال تلك الفترة التي ستستغرقها رحلة العودة للمريخ. وهذا مجهول لا يعلمون عنه كثيرا. وينسج الفيلم خيطا إنسانيا آخر يتمثل في عمليات التواصل بين رواد الفضاء وعائلاتهم في الأرض، حين يعلمون أن عودتهم تأخرت لبضعة شهور، فيما هم يتابعون الحمى الإعلامية التي تلاحق أخبار المهمة المريخية المحفوفة بكل أنواع المخاطر. في هذه الأثناء نحن نتابع بشغف كبير صراع «واتني» من أجل البقاء، الذي يتضمن قرارات يومية يتخذها من دون أن يكون متأكدا تماماً من عواقبها، لكن تعاطفنا معه بتعاظم في كل لحظة وقد اتخذ قراره الأهم والأشجع بألا يموت. وهو يخوض هذا الصراع على أنغام موسيقى أغاني الديسكو من مجموعة اسطونات قائدة الرحلة «لويز» التي يحلو له السخرية من ذوقها الموسيقي طوال الوقت. كما تكشف هذه اللحظات المتواترة عن خصوصية العلاقة التي تنشأ بين رواد الفضاء الذين يقضون شهورا معا على بعد مئات آلاف الأميال والسنوات الضوئية من الأرض ومن ذويهم، وهو ما قد يفسر لنا سرعة استجابتهم السريعة وبالأجماع لقرار العودة لإنقاذ زميلهم العالق بين غياهب المجهول. ونحن بدورنا نقع أسرى هذا الموقف البطولي النبيل الذي يعلي من قيمة التآخي الإنساني وتكاتف وتعاضد المجموع في سبيل الفرد. إن صرامة ودقة العالم اللتين يتعامل بهما البطل مع أزمته الوجودية تلك لا تفقدانه إنسانيته في أي لحظة طوال رحلته المضنية تلك في غياهب المجهول، التي يخيم عليها شبح الفناء شبه المحتم أمام عينيه وفي مخيلتنا نحن بالتأكيد. وهو ما يجعله جديرا بتعاطف جارف من الجمهور لا كبطل خارق قادر على اجتراح المعجزات، وإنما كإنسان أولا وأخيرا ينتصر لأكثر ما يميزنا كبشر، أي سلطان العقل مشفوعا بإرادة الحياة ومقارعة الموت. وتلك هي القيمة الدرامية والإنسانية الأبرز في الفيلم. كما أن الفيلم يحمل في طياته رسالة سياسية وإن هامشية من خلال تعاون غير مسبوق مع وكالة الأبحاث الصينية التي نكتشف أنها تدير برنامجا سريا ناجحا لغزو الفضاء، حيث تستعين «ناسا» بخبرتهم حين تعد مسبارا Probe» بدون ركاب محملا بالمؤن لإطلاقه للرائد سجين المريخ، لكن الصاروخ الحامل للمسبار ينفجر لحظة انطلاقه، فتتم الاستعانة بالصينيين (وليس الروس، لاحظوا، رغم أنهم أصحاب السبق في غزو الفضاء وبالتأكيد أكثر تقدما من الصينيين) في إعادة إطلاق صاروخ آخر. حتى غزو الفضاء لا ينجو من ألاعيب السياسة (المخرج عاوز كده، كما يقولون). ناقد مصري «العائد من المريخ» لريدلي سكوت: مغامرة فضائية على الكوكب الأحمر عماد الدين عبد الرازق القدس العربي