تظل الحقائق دامغة وتدحض كل الإدعاءآت: لا مصلحة للسودان من قيام سدود الشمال السدود ستؤدي الي إغراق شامل للأرض النوبية ولا سبيل للإنكار. الحضارة النوبية إرثٌ سودانيٌ قوميٌ ولا يملكون حق محوها بالإغراق مهما كان. هنالك بدائل كثيرة جداً لإنتاج الكهرباء ومن الممكن توفيرها من دون سدود وإغراق. الغالبية العظمي والساحقة من أبناء المنطقة المتأثرة من النوبيين ضد قيام السدود. بمتابعتي لكل ما يحدث فيما يتعلق بقضية السدود، أري أن سلطة الإنقاذ تقدمت بعض الخطوات في سبيل تنفيذ مخططها لقيام سدود في دال وكجبار والشريك ! ولأن هذه السلطة تعلم بأنها تمضي معاكسة لإرادة السودانيين عامة والنوبيين علي وجه الخصوص، وأنها لابد أن تقوم بذلك تنفيذاً للإلتزامات مسبقة قُدمت الي مصر عندما تمت موافقة الأخيرة علي انشاء سد مروي، ثم ولأنها تعجلت وقدمت مباشرة هذه المشاريع لتمولها وذلك لتضمين رضاها الذي كان يتراوح بين الشك والحذر وإرتياب السنين، لكل ذلك وغيرها من أسباب التعطش للمشاريع المليونية ونهم الصفقات المحزوبية، كان لابد أن تتقدم قيادة الانقاذ بنفسها لتتصدي للدفاع عن مخططها المشئوم. فيخرج وزير الكهرباء بتصريحات كلها تناقض ولكنها تحمل رسالة قاطعة بالإصرار علي تنفيذ السدود. ويتبعه رئيس النظام بنفسه بأحاديث مطولة يصب في جذءٍ منها وابل غضبه علي حزبه والمواليين له وهو يخاطب مجلس حزبه، وفي الجذء الآخر يستنكر الحملة القوية التي يقودها بكل حزم وإصرار المناهضون لقيام السدود والمقاومون لمخططات إغراق أرض الحضارات وجزور الأديان المقدسة. هذا الإصرار والتحدي من قبل السلطة لابد أن يقابل بمزيد من المقاومة والرفض من الجماهير. ولابد أن تتسع حملة الرفض للسدود ويرتفع صوتها في كل السودان وخاصة في المناطق النوبية موقع الضرر والضرار. الرفض هذه المرة لابد أن يكون رفضا عاماً من كل القوي القومية الوطنية في مختلف مواقعها، وشاملاً للقوى الحزبية والأتحادات المهنية والتنظيمات الإجتماعية ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الشبابية والنسائية وغيرها. وقد يبدو هذا النداء بديهي بالنسبة للنوبيين ومنظماتهم حيث أنهم يستميتون من أجل البقاء ورفض الفناء. فالسدود تعني بالنسبة لهم إجترار لمرارات إغراق الأرض ودمار كل ما فيها من ثروات تراثية وأركيلوجية ومعدنية. وتعني إجترار مآسي ومرارات التهجير وكل مشاهد الحزن المرير عند ترك بيوت الأجداد وأراضي الأجداد ونخيل الأجداد وفوق كل ذلك القسوة القلبية المزمنة حينما ينتهي الأمربترك الأجداد نفسهم يغرقون بقبورهم في أعماق بحيرات السدود. والنوبيون يعلمون جيداُ أنها في هذه المرة: دمار شامل للحضارة النوبية وبكل مقوماتها، وتهجير كامل لكل نوبيي السكوت والمحس وأنعكاسات ذلك علي بقية النوبيين من حلفا القديمة الي الغدار. ويعلمون أن القصد قد بدا واضحاً مع الإصرار علي تكرار هذه المأساة وهو تفريغ أرضهم وتهجيرهم ليصبح الإحلال سهلاً ومنطقياً، ومن الواضح أنه إحلال أجنبي بعد نجاح ما تم تسميته ب "تجربة زراعة الحوض النوبي غرب النيل" وسأعود الي ذلك لاحقاً. ولذلك المسئولية هذه المرة علي كل سوداني وطني غيور علي ثروات الوطن ومقدراته ونسيجه الإجتماعي وتعدده الثقافي. وأعتبرها لحظة تاريخية فارقة وفي غاية الأهمية علي كل السودان ومسيرته الوطنية. خاصةً بعد أن عاش معاناة ولازال يعاني من مرارة التفريط في هذه القيم التي ظلت تميز السودان لسنين طويلة وتقويه بتعدد ثقافاته وقومياته العريقة، فخسر الجنوب بإنفصاله وكل ثرواته ويخسر دارفور بوهج علم أبنائه. هي قضية قومية ووطنية ولا يجب أن نسمح لمسوغات التضليل والنفاق التي تتحدث عن محدودية المتأثرين بالإغراق وصغر الأرض التي سيتم إغراقها. نفس هذا الكذب والتضليل تكرر في كل مأآسي السدود علي مر العصور، ودائماً تأتي نتائجها كارثية وتكشف عن الدمار الكامل للإنسان والبيئة والموارد. والعجيب أن سلطة الإنقاذ تقود الحملة بقيادتها وفي نفس الوقت تأتي تصريحاتهم وأحاديثم الداخلية والعامة ممتلئة بالتناقضات وكأنهم لا يمتلكون المعلومات الحقيقية حول هذه السدود !!! فرئيسها لا يعلم كم من المساحة سيتم إغراقها ولا يعرف من المتضررين منها، ويتعجب من قوة الحملة المعارضة لها ...!!! ووزير الكهرباء وهو القائد التنفيذى الأول لهذه المشاريع يتناقض بين أنها ستقوم ولا تراجع للحكومة من تنفيذها وبين الإدعاء بأنها لن تقوم إلا بموافقة أهالي مناطقها !!! إذاً أنت تمهد الطريق لإنشائها بالقوة اذا ما واصل الأهالي رفضهم وهو الشئ الذي يحدث منذ سنين وسيحدث بالتأكيد لأنهم كلهم علي قلب رجل واحد ضدها وسيستميتون في رفض إنشائها. ثم يأتي مستشار الولاية الشمالية ليصرح لوكالة سونا في دنقلا ليعيد أسطوانة "أن السدود هى من أجل تنمية" ... ويضرب أمثلة مشروع كوكا الزراعي ذو ال 17 ألف فدان، ومشروع غرب سيسة 29 ألف فدان ... وكأنها مشاريع فضائية لا يمكن أن تقوم علي الأرض وتحتاج الي سدود لترتقي ماكيناتها علي علياء أبنيتها لتعمل علي حرث أرضها ... وهذا هو التضليل بعينه ... وإلا لماذا لم تقم السلطة بتنفيذ هذه المشاريع من زمن طويل لتأتي الآن وتدعي بأنها ستنفذ بعد قيام السدود ؟ ما هذا النفاق البين ؟ وكيف يمتلكون القدرة عليه هؤلاء ؟؟؟ هي مشاريع زراعية تنموية وإذا كنتم حقيقة صادقون بقصد التنمية، لأنشأتموها منذ وقت بعيد ! ومن التناقضات في التصريحات، أن يعلن الوزير في تصريحاته أن 23 قرية سيتم إغراقها ويدعي أن سكانها المتأثرين لا يتجاوز عددهم ال 7 ألف !!! ثم يأتي مستشار الولاية الشمالية ليعلن أن هنالك 12 قرية فقط ستغرق ! فمن بالضبط يمتلك المعلومة الصحيحة؟ أم هي لا توجد أصلاً لدي الحكومة؟ إذاً السؤال الكبير والمهم هو: من يمتلك المعلومات عن هذه السدود ؟ ومن قام بإعداد دراسات الجدوي لها؟ ومن قام بتمويل قيامها ؟ وهل غيابها عن الحكومة هو سبب تجاهلها لمطالب النوبيين منذ عام 1995 بنشر دراسات الجدوي ليعلم الجميع حقيقة ما وراء هذه المشاريع ؟ هي أسئلة كثيرة وتحتاج لإجابات واضحة ... ولا أظن أنها ستجد إجابات واضحة. ولكن !! من ضمن جملة هذه التصريحات، أدعوكم لتتأملوا معي الجذء الهام الذي ورد في حديث وزير الكهرباء والسدود، الرجل التنفيذي، السيد معتز موسي لهذه السدود والذي جاء في مؤتمره الصحفي الذي عقده مؤخراً بالمركز السوداني للخدمات الصحفية وكشف فيه "... عن وثيقة تم التوقيع عليها بين السودان ومصر في العام 1997 وافقت فيها مصر علي اقامة سد مروي وهذه السدود الثلاثة" إذاً هذا هو مربط الفرس ! والتأكيد هنا من مسئول في ذاك الموقع الرفيع بأن السدود إنما هي تنفيذ لإتفاق تمً مع مصر ... وهذا ما ظللنا نكرره من سنين طويلة وظلت تنكره كل أركان الإنقاذ. ولا يحتاج الأمر منا الآن إلا أن نكرر من جديد لماذا وافقت مصر علي سد مروي ؟!! فهي فعلت ذلك بعد أن أضافت له السدود الثلاثة. ولذلك مصر هي التي تمتلك تصاميم هذه السدود ودراسات جدواها وليس الحكومة السودانية وهذه هي الحقيقة. وقبلها جاءت تصريحات الدكتور حسام الدين مغازى وزير الموارد المائية والري المصري أنهم وافقوا علي طلب من "الجانب السوداني" لتخفيض الإرتفاعات والسعة التخزينية نظراً للتغيرات المائية التي سيفرضها سد النهضة في حوض النيل الأزرق، ولذلك قام رأي الجانب الفني تخفيض ارتفاع السدين عن ما كان مدروس ومقتلرح عام 1997." إنتهي "الأهرام اليومي _ الأحد 31 يناير 2016 وكل هذا يؤكد الكثير من الإستنتاجات التي ظللنا نستنبطها في غياب دراسات الجدوي لسدى دال وكجبار حتي لدى الحكومة. والآن هنالك شواهد كثيرة على أرض الواقع ولم تعد من ضروب الخيال تؤكد أن مصر هي صاحبة التخطيط لقيام هذين السدين: مصر ظلت تعترض ولسنسن طويلة وبوسائل شرسة علي تنفيذ مشروع واحد كان يهدف الي تعلية (مجرد تعلية) لسد الرصيرص بدعوي أن ذلك سيؤثر علي حصة مصر المائية بحكم إتفاقية مياه النيل !! وردت في ذلك الوفود تلو الوفود الفنية والسياسية السودانية وهي تصر علي الرفض. ولكنها وافقت علي تعلية الروصيرص بالإضافة الي قيام سد مروى بعد موافقة السودان علي شرط بنائها لسدى دال وكجبار في حين أنها (مصر) تكاد لا تقعد الدنيا بعد أن أقامتها وهي تطلق الصرخات والعويل ضد سد النهضة الأثيوبي ! مصر تعاني الأمرين من تمدد بحيرة النوبة وإتساعها الكبير والذي يؤدي بطبيعة الحال الي انخفاض المخزون الإستراتيجي للمياه بسبب ارتفاع مستوي الطمي في قاعها وفي نفس الوقت زيادة معدلات التبخر لمياهها مجراء تمدد سطحها. السد العالي تجاوز العمر التصميمي له وبالتالي لابد من خطوات فنية من أجل حمايته ليعيش أطول مدة ممكنة، وإرتفاع مستوي الطمي خلفه يضاعف من أزمته حيث يزيد قوة الضغط علي حائطه وخطورة إنهياره. مصر تحتاج الي خزان جديد لمياهها وهي تتمني أن تقيمه علي أرض السودان وقبل وصول مياه النيل الي بحيرة السد العالي. وهي ستستفيد من خطأ قيام خزان واحد (ضخم أو عالي) تنتج عنه بحيرة كبيرة وبالتالي تزيد مساحة المياه الساكنة (الغير متحركة) والتي تقدر بنسبة 30% من المخزون الكامل لأي بحيرة. وسلبية هذه المياه الساكنة (التي تكون عادة علي سطح البحيرة بجهة حائط السد وجوانبها) هي المعدل الكبير للترسيب تحتها والتبخر فوقها. مصر بدأت تزحف بمشاريعها الزراعية الي مواقع جديدة مع الضغط الكبير الذي تتعرض له من ضعف مواردها في مقابل زيادة العجز في موازناتها. وقامت بتنفيذ مشروع علي الحوض النوبي في أعماق الأرض السودانية وإدعت بأنه "تجريبي" لخداع الرأي العام بأنه لتجريب الأرض وأسلوب زراعتها بالري الإرتوازي. ليتضح فيما بعد أنه مشروع استراتيجي لزراعة القمح ستصل مساحته الي مليون فدان. وهو يتم علي أخصب الأرض علي الحوض النوبي العظيم والتي أظهرت كل صور الأقمار الصناعية حجم مياهه الجوفية. وإليكم هذه المقارنة البسيطة من أرض الواقع الحاضر: ففي الوقت الذى تستعد سلطة الإنقاذ الإحتفال بحصاد القمح في الشهر القادم بمشروع الجزيرة متباهيةً أن انتاج الفدان سيصل الي 12 جوال قمح، ظلت مصر تحصد ما يفوق ال 30 جوال للفدان من مشروعها في الحوض النوبي !!! تصوروا هذا الفارق. مصر اختارت موقع يبعد 50 كلم غرب نهر النيل لتنفيذ مشروعها الزراعي مما يشير الي علمها التام بمشاريع الإغراق وسعتها. مصر تعلم علم اليقين بأن الطاولة قد أنقلبت عليها وعلي عهد سيطرتها علي مياه النيل بإتفاقيتها الجائرة مع السودان في 1929 والتي تم توثيقها في الأممالمتحدة عام 1959. فدول الحوض قد انتفضت في إجتماعها بمدينة عنتبي متجاوزة مصر والسودان وأعلنت عدة مشاريع لعل أخطرها سد النهضة الأثيوبية العظيم والذي فاقت نسبة تنفيذه ال 40%. وبالتالي مصر تسعي لتأمين مخزونها بأسرع ما تستطيع. كل هذه الحقائق علي الأرض تشير الي أن السلطة تسعي الي تنفيذ أجندة مصرية مئة في المئة، وتصريحات الوزيران تأتي لتؤكد ذلك وبدون أدني تردد. ونحن لا نعترض أن تسعي مصر الي دعم مشاريعها الإستراتيجية مثل تخزين مياهها أو غيرها، ولكنا لا يمكن أن نقبل أن يتم ذلك علي حساب مقدراتنا وفي مقابل فنائنا. ويمكن جداً لمصر أن تنشئ سدوداً علي أرضها لتخزن فيها مياهها. كل مشاريع الحوض النوبي يجب أن تكون للسودانيين ولأبناء المنطقة النوبية في المقام الأول. وهذه أيضا إستراتيجية قومية سودانية ولا يجب التنازل عنها أو التفريط فيها. ولا بأس أن تدخل إستثمارات أجنبية بشروط واضحة تضمن عودة المصلحة الكاملة الي أصحاب الأرض النوبية. ونحن نعلم تماماً ما يحدث حولنا في السوق الإقليمية للمحاصيل، وندرك جيداً القيمة العالية لمواردنا مثل الأراضي الخصبة والبور والمياه الكثيرة لهذا الحوض النوبي والتي تشكل البنية الأساسية لنجاح المشاريع الزراعية عليها. وليس مصر وحدها التي تستميت حوجة للحبوب، فالمملكة أعلنت أنها بحصاد أبريل/مايو هذا العام ستنتهي تماماً من آخر مشاريع زراعة القمح في أراضيها. صحيح أمها أتخذت هذا القرار قبل أكثر من 3 أعوام بعد الإنخفاض الكبير في سعر القمح عالمياً، ولكنها الآن تستهدف الإستثمار في السودان وليكن لسد ولو جذء من حوجتها للقمح التي تصل الي 3.5 مليون طن سنوياً. وعلينا أن نهيئ المناخ الإستثماري الجيد من أجل إستقطابهم للحضور وتمويل المشاريع علي أن يضمن السودان تصدير الإنتاج اليها. أما أن تتحول المنطقة النوبية الي منطقة نزاعات وصراعات بين الدولة ومواطنيها فهذا يعني وبكل بساطة تخريب لفرص عظيمة لتنمية وتطور هذه البقعة العزيزة من أرض الوطن: ولا يستقيم حتي من أي جاهل أن يحدث ذلك بدعوي "التنمية" !!! وبالتالي تتجدد الدعوة الي التصعيد القومي لحملة معارضة قيام هذه السدود التي ستقوم بتدمير موارد السودان البشرية والمائية والمعدنية وفوق كل هذا وذاك ستؤدي الي إغراق أرض أعظم حضارية إنسانية علي وجه الأرض والتي حبانا الله أن تكون أرض وطننا السودان. [email protected]