لجامعة الخرطوم صفحات مشرقة في تاريخ السودان الحديث، ولكل أجيال خريجيها المتوالية صفحات مشرفة في تاريخ الحركة الوطنية السودانية بدءاً من الجيل الأول من الخريجين الذي أسس مؤتمر الخريجين، ذلك الجيل الشامخ الذي لم تبطئ عزائمه هزيمة انتفاضة «ثورة» عام 1924.. فهو الجيل الذي درس وعرف أن ميادين النضال ومناهضة الاستعمار تبدأ أولاً بالوعي المستنير وتعليم الأبناء والبنات في المدارس القليلة العدد، وقد نهض الخريجون فأسسوا المدارس الأهلية بعرق وجهد السودانيين، فكانت مدرسة أم درمان الأهلية الوسطى، ثم الثانوية ومدرسة بورتسودان الأهلية ومدرسة مدني الأهلية، ثم مدرسة المؤتمر الثانوية في مدينة أم درمان.. كان المستعمر، وحسب خطته التعليمية، حريصاً على الحد من انتشار المدارس النظامية ففي طول السودان وعرضه، ولم ينشئ المستعمرون (حتى الحرب العالمية الثانية سوى مدرسة ثانوية عرفت يومها بكلية غردون، وقد دعا لإنشائها الحاكم العام آنذاك الجنرال كتشنر، إذ دعا البريطانيين للتبرع من أجل تأسيس كلية في السودان تحمل وتخلد ذكرى الجنرال غردون الذي قتله الثوار (جند المهدية) على أعتاب سراي الحاكم العام العتيقة.. وقد استمرت المدرسة التي سميت باسم الجنرال غردون تتدرج حاملة اسم كلية غردون التذكارية، إلى أن أصبحت في أواخر سنوات الحكم الثنائي كلية الخرطوم الجامعية في عام 1951). ومناسبة هذا الحديث الآن عن الجامعة التي افتتحها اللورد كرومر والجنرال كتشنر في عام 1902 هي تلك الأحداث والتظاهرات ومواكب الاحتجاج التي عمت العاصمة المثلثة طوال الأسبوع الماضي، وقد بدأت الأحداث عندما سربت وكالة الأنباء الرسمية خبراً مفاده بأن اجتماعاً انعقد برئاسة نائب رئيس الجمهورية ومشاركة وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي ومدير جامعة الخرطوم (المعين) للبحث في تطوير الجامعة، وأن النائب الأول قد تبرع بمبلغ عشرين مليار جنيه سوداني للجامعة. ولكن مجالس الخرطوم والمهتمين بالشأن العام كانوا يعلمون أن ثمة مشروعاً يقولون إن تنفيذه قد بدأ فعلاً لبيع الجامعة والمباني العديدة والأرض الزراعية التي أوقفها رجال ونساء سودانيون لجامعة الخرطوم في مساحة كبيرة وفي أهم المواقع التجارية في الخرطوم. والخبر المتداول منذ تلك اللحظة يقول إن خطة الحكومة تقضي بأن تنقل كليات الجامعة كلها إلى منطقة «سوبا»، حيث للجامعة مساحة شاسعة انتزعها الدكتور عبد الله الطيب عندما كان مديراً للجامعة في العهد المايوي، وزاد شكوك الناس حول خطة الحكومة لبيع جامعة الخرطوم تصريح من وزير السياحة قال فيه إن كل مباني وأراضي الجامعة قد نقلت الحكومة ملكيتها إلى وزارة السياحة، وإن سيادته قد شرع في تسلم «ممتلكات» وزارته، وإن في خطته أن يحول مباني الجامعة العتيقة إلى «مزارات» سياحية (هكذا قال)! وتوسع الغضب وبدأ طلاب الجامعة الاحتشاد والتعبئة، وخرجت التظاهرات الواسعة التي شاركت فيها كل قطاعات الشعب وقواه السياسية والنقابية، وكان الشعار الموحد هو «لا لبيع جامعة الخرطوم». ورأى تجمع أساتذة جامعة الخرطوم أن عليه حمل المسؤولية التي تخلت عنها الإدارة الحالية في الدفاع عن الجامعة، ومقاومة مشروع بيعها وتحويل أراضيها ومبانيها إلى منطقة سياحية يقال إن صفقة قد أبرمت مع «مستثمر عربي» لإنفاذ هذا المشروع، وكأنما السودان بكل أراضيه ومناطقه السياحية لم تجد فيها الحكومة منطقة لإقامة مشروع سياحي غير أرض الجامعة، وهي تعلم أن المستثمر قد يكون له فهم غير فهم حكومة السودان للمشاريع السياحية، ومؤكد أنه لن يخفي ذلك على الحكومة. وقد شهدت الخرطوم مواكب احتجاج ووقعت صدامات بين قوى الأمن والمتظاهرين الذين اعتقلت أعداداً منهم، وتحركت أسر الطالبات والطلاب المعتقلين وقامت مجموعة منها باقتحام مباني جهاز الأمن الفرعي في مدينة الخرطوم بحري، وأعلنوا أنهم لن يغادروها قبل أن يعرفوا أين يوجد أبناؤهم وبناتهم المعتقلون منذ يوم 13 أبريل. وبدأت مؤشرات حركة الاحتجاج السلمي على بيع جامعة الخرطوم عقد مجلس الوزراء جلسة طارئة صدر عقبها بيان رئاسي أعلن أنه ليس هنالك بحث أو مشروع لبيع جامعة الخرطوم.. ولكن السودانيين ما زالوا في شك من الأمر بل زادت شكوك بعضهم لأنه أثناء تصاعد الموقف المتوتر صدرت مقالات وأحاديث تلفزيونية من بعض أعمدة الإعلام الحكومي تندد بالتظاهرات والمتظاهرين، وتعلن بكل قوة أن بيع جامعة الخرطوم خطوة مباركة كان يجب أن تحدث منذ زمن! ----------- عبد الله عبيد حسن* كاتب سوداني مقيم في كندا الاتحاد