إذا استثنينا مناطق البترول في أقصي الجنوب الغربي للولاية، فقد تحولت جنوب كردفان بكل مدنها وقراها وعلي رأسها العاصمة كادقلي _لساحة حرب ضروس، لدرجة أن القوات الحكومية تستعمل الطيران لقصف أهداف داخل المدن، ونزوح عشرات الآلاف من المدنيين، وتم تدمير منزل رئيسي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية احمد هارون وعبد العزيز الحلو بالكامل، كمؤشر علي حجم التدهور والدمار الذي أصاب الولاية. وبالنظر إلي المعطيات علي الأرض التي تشير إلي أن المؤتمر الوطني هو الذي بدأ إطلاق الشرارة الأولي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه : كيف يفكر الوطني ؟ وماهي علاقة ذلك بخططه للتعامل مع دولة السودان الجنوبي ؟ وما هي النتائج المترتبة علي هذا الصراع ؟. شرارة الأحداث الأخيرة كان سبب اشتعالها خطاب بعثه رئيس هيئة أركان القوات المسلحة لرئيس هيئة أركان الجيش الشعبي يطالبه فيه بسحب كل القوات التابعة للجيش الشعبي جنوب حدود 56 في فترة أقصاها أسبوع (حتى 31 مايو الماضي)، أو تسليم سلاح القوات الموجودة شمال حدود 56. وأدي الطلب لحالة من الاحتقان والتأهب وسط الآلاف من مقاتلي الجيش الشعبي الموجودين في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. وفي الأخيرة تحديداً لم تكن قوات الجيش الشعبي تنتظر خطاباً مثل هذا لتتحسس مواضع أسلحتها، لان الأحداث والملابسات المصاحبة للانتخابات بالولاية وإعلان فوز مرشح الوطني لمنصب الوالي احمد هارون كان كفيلا بتأجيج النيران في أوساط هذه القوات، ووسط جماهير الحركة بالولاية التي تري أن فوز مرشحها عبد العزيز الحلو أمرا لم يكن محل نقاش. ما يثير التساؤل وربما الدهشة لماذا تعامل المؤتمر الوطني مع ملف الجيش الشعبي بالولايتين بهذه الطريقة ؟. أي لماذا طلب الوطني من ما يقارب الأربعين ألفا مدججين بالسلاح وقاتلوا ضده سنين طويلة تسليم أسلحتهم والانصراف بعد ذلك لمنازلهم، بدلا من الجلوس معهم والتوصل لاتفاق توفيق أوضاع سياسي ومادي لهذه القوات (وربما عسكري أيضا) ؟. الراجح أن القيادة السياسية في الخرطوم اتخذت قرار شن الحرب دون دراسة دقيقة لتوازن القوي بينها وبين الجيش الشعبي بجنوب كردفان، وتماشيا مع الخط المتشدد الذي تنتهجه هذه الأيام ضد الحركة الشعبية والجنوب (والذي يغلب عليه طابع الحماس). ولكن قرار شن الحرب في المقابل لم يأتي بالصدفة، وجاء في إطار خطة متكاملة تضع عينها علي دولة الجنوب ما بعد الاستقلال، وترتكز علي إحكام السيطرة علي جنوب كردفان والفوز بمنصب الوالي وإحراز الأغلبية في مجلسها التشريعي؛ وطرد قوات الجيش الشعبي من حواضرها وحصرهم في جيوب بالجبال. والانتقال بعد ذلك للهدف النهائي وهو ولاية الوحدة بالجنوب الغنية بالنفط. علي صعيد آخر وفي السياق، تشير معلومات من مصادر موثوقة إلي أن قيادات جنوبية معارضة قامت بجولة في عدد من الدول بمساعدة الخرطوم لكسب التأييد السياسي والدعم المادي من هذه الدول. وتهدف هذه المجموعات التي يتزعمها د.لام اكول لتجميع كل المليشيات والمنشقين عن الجيش الشعبي في جسم واحد، والانطلاق من ولاية الوحدة لبقية المناطق والولايات الجنوبية، وهو الأمر الذي سيشكل تهديدا استراتيجيا لدولة السودان الجنوبي في حال نجاحه، باعتبار الولاية منطقة الإنتاج الرئيسي للبترول وذات تركيبة اجتماعية حساسة. ولكن حسابات الميدان في جنوب كردفان كان لها رأي آخر، فقد كشر الجيش الشعبي هناك عن أنيابه وحول الولاية بأكملها وبما فيها المدن الرئيسية لساحة حرب. واضطر المؤتمر الوطني للتراجع وتغيير خطابه السياسي، حيث أصبح يطالب برجوع عبد العزيز الحلو لمناطقه التي كان يرتكز فيها قبل اندلاع القتال، بدلا عن مطالبته بتسليم أسلحته وقواته كما كان الخطاب الإعلامي في الأيام الأولي لبداية المعارك. وبينما كانت حسابات الوطني وخططه قائمةً علي ضربة خاطفة توجهها قواته للجيش الشعبي (شبيه بسيناريو ابيي)، وجدت الخرطوم نفسها تتورط في صراع وسيناريو جديد يشابه ما جري في دارفور. وخلال أيام النزاع القصيرة؛ وبسبب ضراوة القتال وقصف المدنيين تشير تقديرات الأممالمتحدة إلي أن عدد النازحين تجاوز السبعين ألفا. وادي هذا الوضع لصدور إدانات من اعلي المستويات الدولية، الأمر الذي سيزيد من عزلة الخرطوم، وليس من المستبعد في حال استمرار الصراع واستهداف المدنيين أن ينفذ سلاح الجو الأمريكي ضربات خاطفة لمواقع عسكرية وأمنية داخل الخرطوم؛ كما أوردت بعض التسريبات الإعلامية. وعلي صعيد صراعها مع الحركة الشعبية بجنوب كردفان، وضعت الخرطوم نفسها الآن في مأزق. فهي إما أن تقاتل للنهاية وتقضي علي الجيش الشعبي هناك نهائيا (ولا يبدو هذا ممكنا الآن)، أو تشرع في عملية تفاوض وتوقيع اتفاق سلام جديد. بينما كان من الممكن في حال التفاوض بين الطرفين قبل الحرب تطوير اتفاق نيفاشا واستمراريته. وبالنظر لحجم الخسائر والخطاب المتشدد لقائد الحركة عبد العزيز الحلو الذي ينادي بإسقاط النظام، فسيواجه المؤتمر الوطني أزمة ارتفاع سقف مطالب الحركة وتشددها، ومن الصعب الآن أن تتراجع الحركة هناك عن مطلب الحكم الذاتي (وربما تقرير المصير). كما ستجد الحكومة المركزية نفسها الآن متورطة في صراع مع شعب النوبة ذي الكثافة السكانية العالية في الشمال، وصاحب الوجود الكبير في مختلف مؤسسات الدولة؛ وتحديدا المؤسسة العسكرية (وليس أدل علي ذلك من تمرد الجيش في كادوقلي ورفضه تنفيذ تعليمات بتجريد قوات الجيش الشعبي من السلاح ودخوله في معارك مع قوات الاحتياطي المركزي). وفي حال استمرار الصراع وفشل الأطراف التي تتفاوض الآن في أديس ابابا في التوصل لحل المعلومات من هناك تشير لتعثر التفاوض فمن المتوقع أن يخوض الطرفين جولات عنيفة من القتال. وستجد حكومة الجنوب نفسها في قلب الصراع، ولن يكون أمامها طريق سوي دعم الجيش الشعبي في جنوب كردفان. ولوقوف حكومة الجنوب مع الحركة هناك ضرورات عملية وعاطفية، فالولاية تطل وتجاور أربعه ولايات جنوبية؛ وتشكل بالتالي أهمية إستراتيجية لأمن الجنوب. كما تحيط الولاية بمنطقة ابيي المتنازع عليها بين الشمال والجنوب، والتي يتوقع أن يطول أمد الصراع فيها وليس من المستبعد أن يتطور الصراع حولها لحرب محدودة أو شاملة بين الطرفين. كما أن تقوية الجيش الشعبي بجنوب كردفان ستصب في مصلحة دولة الجنوب؛ حيث سيشكل لها حماية وعمقا تنقل من خلاله دفاعاتها لمناطق الخصم بدلا من خوض الحرب داخل أراضيها. إضافة لدوافع عاطفية لا تقل أهمية، وهي الصلات الاجتماعية العميقة بين الجنوبيين والنوبة، والأعداد الكبيرة من أبناء النوبة التي قاتلت مع الجنوبيين منذ العام 84 (لا يزال الآلاف من أبناء جبال النوبة موجودين ضمن الجيش الشعبي الأم بالجنوب). وللخروج من هذا المأزق تبدو الخيارات الآن أمام الوطني ضيقة ومنها : حل المشكلة في إطار حوار وطني شامل وتسوية سياسية في الشمال يمضي معها بالتوازي الوصول لحلول جذرية للقضايا العالقة مع الجنوب، والخيار الثاني إعطاء جنوب كردفان الحكم الذاتي أو حق تقرير المصير. ولكن وبالنظر لطبيعة تركيبة السلطة في الخرطوم، فليس من المتوقع أن تمضي في أيا من الاتجاهين، ويرجح أن تتصاعد المعارك خلال الأسابيع القادمة في انتظار أن يحقق احد الطرفين انتصارا، أو تحدث مفاجأة من أي نوع.