مساهمة لإثراء الصراع الفكري داخل الحزب الشيوعي السوداني في إطار التحضير للمؤتمر السادس الإنقطاعات في مسار الثورة الوطنية الديمقراطية هي جزء من مسار تطورها للأرقي من الخطأ الإعتقاد بأن الإنقطاعات التاريخية في مسار الثورة الوطنية الديمقراطية الناتجة عن الضربات الموجعة التي تتلقاها قواها الإجتماعية علي يد الأنظمة الديكتاتورية التي تحكم بلادنا (عسكرية كانت أم مدنية) و تؤدي إلي إفقار الشعب و مصادرة حرياته و تدمير موارده و مكتسباته و مؤسساته الإقتصادية و النقابية و الديمقراطية و إشعال فتيلة الحروب الأهلية، و إشاعة روح اليأس و الإحباط هي تراجع في مسار التاريخ الإجتماعي و في مسار الثورة الوطنية الديمقراطية عموما. صحيح أن هذه التقطعات خلال تلك الفترات التاريخية المظلمة من تاريخ شعبنا تؤخر مسار الثورة الوطنية الديمقراطية و تؤخر بالتالي عملية التقدم و التطور الإقتصادي و الإجتماعي و السياسي إلا أنها في حقيقتها عبارة عن تقطعات تعبِّر بدورها عن مستوي الصراع الطبقي في بلادنا و تمثل في مجملها و في تاريخِيَّتِها (إن جاز لنا هذا التعبير) جزءا من خط الاستمرارية و التطور و الإرتقاء للأفضل في مسار الصراع الإجتماعي و في مسار الثورة السودانية نفسها. فحزبنا و شعبنا و قواه الإجتماعية صاحبة المصلحة في إنجاز برنامج مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية التي تقف علي جانب واحد من واقع الصراع الإجتماعي (برغم تباين أصولها الطبقية) لا تبدأ من الصفر لحظة الإنتصارات و التحولات الثورية بل تنطلق من تراكم تجاربها الثورية و النضالية السابقة مستفيدة من الإهتزازات و الإختلالات التي تحدثها تراكمات تجاربها الثورية تلك في واقع الصراع الإجتماعي و في تركيبته الطبقية و في تغيرات توازن القوي الإجتماعية و السياسية التي يفرزها هذا الصراع الإجتماعي نفسه في بلادنا و الذي تتجلي مظاهره الجدلية علي مستوي المقاومة الشعبية و النهوض الجماهيري و أيضا علي مستوي التخلخل و التحول في تركيبة الرأسمالية السودانية، الطبقة العاملة، أرستقراطية شبه الإقطاع القبلي، و شرائح البرجوازية الصغيرة: أولا: علي مستوي المقاومة الشعبية فعلي مستوي المقاومة الشعبية و برغم الاستهداف المنظم لحركة الجماهير خلال هيمنة ديكتاتورية يونيو العسكرية الرأسمالية الطفيلية المتأسلمة و تزامنه مع حالة الإنهيار التام في كافة القطاعات الإنتاجية و تردي الخدمات خاصة في القطاع التقليدي الذي تخلخلت بنيته الإجتماعية و أفرزت فيه حركة الجماهير أشكالا بديلة أكثر تقدما لتنظيم نفسها. فظهرت في مسار الثورة السودانية قوي المهمشين في دارفور و جنوبي كردفان و النيل الأزرق (بل حتي في العاصمة القومية و كبري مدن البلاد نفسها) هذه المرة أكثر قوة و تنظيما من قبل و التي عبَّرت عن نفسها بالمظاهرات السلمية في معسكرات اللاجئين و في نيالا و الفاشر و الجنينية و بابنوسة و الفولة والمجلد والضعين و غيرها. و كذلك عبَّرت عن نفسها بنضالها المسلح. و علي الرغم من خط الحزب الشيوعي الثابت القائم علي مبدأ النضال الدؤوب السلمي وسط الجماهير و العمل علي تنظيمها و تجميع قواها لإحداث التغيير الثوري عبر الإنتفاضة الشعبية و الإضراب السياسي كأسلحة جماهيرية راسخة و مجربة، و علي الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته جماهير المناطق المهمشة من قتل و إبادة جماعية وتهجير قسري ونزوح، إلا أن نضال الحركات المسلحة في دارفور و جبال النوبة و النيل الأزرق أسهم بشكل واضح في إضعاف نظام يونيو الديكتاتوري و تعريته و لفت انتباه المحيط الإقليمي و العالمي للجرائم البشعة التي ارتكبها و لا يزال يرتكبها في حق شعبنا. إن هذه القوى و جماهير القطاع التقليدي عموما يعتبران معا جزءا لا يتجزأ من قوى الثورة الوطنية الديمقراطية و أن إقترابها من قضايا الثورة الوطنية الديمقراطية و ايمانها بقدرة الجماهير علي إحداث التغيير عبر النضال السلمي أصبحت شعارات راسخة ترد في العديد من برامجها كقضية الديمقراطية، و التنمية المتوازنة، و حرية المعتقدات، و إدارة قضايا التنوع، و احترام حقوق الإنسان، وأيضا في المواثيق التي وَقَّعَت عليها. فكما جاء في بيان قوي نداء السودان الختامي بباريس بتاريخ 22 أبريل 2016م بأنها (أي قوي نداء السودان بما فيها الحركات المسلحة جميعها) ترفع شعار الطريق إلى الانتفاضة الشعبية السلمية و التعبئة الجماهيرية لتفعيل وسائل شعبنا في التصدي المدني السلمي المجرب في إسقاط النظم الشمولية وذلك عبر العمل المقاوم التراكمي الذي انتظمت فيه مختلف الشرائح من طلاب وشباب ونساء ومهنيين في مختلف أنحاء السودان الرافض لحكومة المؤتمر الوطني (قوي نداء السودان، باريس، أبريل 2016م). و في المقابل أيضا أفرزت حركة الجماهير كيانات إقليمية جديدة في شمال السودان و في النيل الأزرق و في شرق النيل و في شرق السودان، و أشكالا مبتكرة للمقاومة الشعبية تعبِّر عن نهوض حركة جماهير شعبنا و قدرتها علي ابتكار أشكال جديدة للمقاومة الشعبية المرتبطة ارتباط وثيق، ليس فقط بقضايا تلك المناطق، بل بمجمل قضايا بلادنا و جماهير شعبنا كلجان و تنظيمات مناهضة السدود في شمال السودان و الكيانات الإقليمية المؤيدة لها في الداخل و الخارج. و كذلك عن قدرتها علي تطوير أدوات نضال الكيانات الإقليمية التي كانت قائمة من قبل كرابطة أبناء البجا التي كان لها دور تاريخي في نضال شعبنا و استطاعت في الوقت الحالي تطوير أدوات نضالها و شعاراتها برغم حملات الإختراق المنظمة التي تمارسها سلطة يونيو الديكتاتورية المتأسلمة و نشاط أجهزتها الأمنية و الإستخباراتية المحموم لشق وحدتها و تفتيتها و استقطاب العناصر المؤثرة فيها. هذا بجانب حركة الشباب التي استفادت من نمو و تطور وسائط تكنولوجيا الإتصالات و المعلومات في تنظيم نفسها و التعبير عن شعاراتها و تطلعاتها من خلال مسميات و كيانات و منابر شبابية مختلفة كان لها دورا طليعيا في مظاهرات يونيو 2011م و انتفاضة يونيو/يوليو 2012م و انتفاضة سبتمبر 2013م و أيضا في انتفاضة طلاب الجامعات في أبريل 2016م مدعومين بتلاحم السودانيين بالداخل و في المهاجر البعيدة و القريبة من خلال فضح النظام في المواقع الوطنية في الشبكة العنكبوتية، و العديد من الصفحات المنظمة في الفيس بوك و التي أصبحت بالضرورة منابر أصيلة للنضال ضد النظام و أداء من أدوات قوي الثورة الوطنية الديمقراطية المستحدثة. و علي الرغم من محاولات النظام المستمرة التقليل من أهميتها إلا أنها أصبحت واقعا ملموسا معاشا له دوره الخطير في فضح النظام و تعريته و في الاسهام في تعبئة أقسام لا يستهان بها من حركة الجماهير و توحيدها، و يجد النظام اليوم نفسه عاجزا تماما عن تلجيمها و قمعها اسوة بإغلاق الصحف و تكميم الأفواه في الداخل. ثانيا: علي مستوي تغيرات التركيبة الطبقية أما علي مستوي التركيبة الطبقية فقد حدثت تطورات عميقة في خارطة النسيج الإجتماعي في بلادنا خلال فترة حكم نظام يونيو الديكتاتوري تصب في مصلحة مسار الثورة الوطنية الديمقراطية تطرق لها مشروع التقرير السياسي المقدم للمؤتمر السادس بعمق و تركيز و نبرز أهمها فيما يلي: 1- الطبقة الرأسمالية: تحولت الطبقة الرأسمالية من طبقة تُرَاكِم رأسمالها (مدعومة بسياسات حكومتي عبود و نميري) في قطاع الزراعة الآلية و صناعات النسيج و زيوت الطعام و غيرها من الصناعات الغذائية (لتبلغ المساحة المستثمرة من قبلها في مناطق الزراعة الآلية خلال تلك الفترة 9 مليون فدان و لتصل نسبة تراكم رأسمالها في القطاع الصناعي حوالي 53% من مجمل راس المال المستثمر في الصناعة عموما)، إلي طبقة رأسمالية طفيلية متأسلمة مباشرة بعد المصالحة الوطنية 1977م و إعلان سياسة الإنفتاح بالنسبة للنظام المايوي و بداية سياسة التمكين الإقتصادي للأخوان المسلمين و التي بدأت بظهور البنوك الإسلامية و الشركات التابعة لها العاملة في قطاعات التأمين و التجارة و التي ركزت علي الأنشطة الخدمية و التجارية سريعة العائد و كان لها دور كبير في تدهور قطاعات الصناعة و الزراعة و غيرها من القطاعات الإنتاجية. و خلال سلطة يونيو الديكتاتورية تحكمت الطبقة الرأسمالية المتأسلمة على الجهاز المصرفي بالكامل و تمكنت من خلاله كشف حسابات الرأسمالية التقليدية و معرفة مقدراتها الحقيقية و بالتالي من تدميرها (و ملاحقة المعارضين من رجال الاعمال بالضرائب الباهظة و الهيمنة، ليس فقط علي مؤسساتهم الإقتصادية و توكيلاتهم الصناعية و التجارية بل حتي الزج بهم في السجون و الهيمنة علي مساكنهم و ممتلكاتهم الخاصة) و احتلال مواقعها في كل مجالات التجارة الداخلية. و قامت بتدمير مؤسسات التجارة الخارجية (و علي رأسها وزارة التجارة) و الهيمنة عليها و احتكار رخص الصادر والوارد. و هيمنت علي الواردات من السلع الغذائية الرئيسية كزيوت الطعام و الألبان و السكر و الدقيق. بل أن بعض الفئات المتنفذة منها سيطرت علي استيراد السلع الاستراتيجية نيابة عن الحكومة و بضمانات و تعهدات مقدمة من بنك السودان المركزي مثل استيراد القمح و السلاح و أجهزة القمع و الإبادة. و سيطرت علي تجارة العملة بالتعاون مع أجهزة الدولة و علي رأسها جهاز الأمن و المخابرات الذي تحول (بجانب كونه جهازا قمعيا) إلي كيان رأسمالي طفيلي أخطبوطي متضخم يمتلك عدة شركات في الداخل و الخارج. و أصبح لهذه الطبقة شركات خارج البلاد تعمل علي تجميع العملات الصعبة من المهاجرين لتمويل عمليات استيرادها من الخارج و القيام بدور الوساطة و السمسرة في الحصول علي تمويل لمشاريع الدولة مقابل عمولات لا طائل لها. و من أبرز التحولات التي حدثت في هذه الطبقة أيضا هي اتساع نطاق تهريبها لرؤوس أموالها التي راكمتها من سرقة أموال شعبنا و الإتجار في قوت يومه إلي خارج البلاد و استثمارها في ماليزيا و إثيوبيا و دبي و غيرها من بلدان العالم في قطاعات النفط و العقارات و الاتصالات و الفندقة و المؤسسات الصحية و التعليمية و غيرها من الأنشطة. و اخترقت قطاع مقاولات المشاريع الحكومية و سيطرت عليه بشكل طفيلي مدعومة بسلطتها السياسية دون خبرة أو معايير أو أسس لطرح و ترسية و تنفيذ العطاءات الحكومية. و سيطرت الشركات المملوكة لكبار هذه الطبقة من المتنفذين في السلطة علي كافة الأنشطة التجارية و الخدمية المرتبطة بقطاع البترول من نقل و ترحيل و تموين و توفير قطاع الغيار و عمليات النقل الحكومي و غيرها من الأعمال المساندة في حقول البترول. وأتخذت سياسة التحرير الإقتصادي و تصفية مؤسسات القطاع العام لمصلحتها ليبلغ ما يملكه القطاع الخاص المحلي 86.9% بينما يملك القطاع العام 1.6% فقط (مسودة التقرير السياسي المقدم للمؤتمر السادس، 2014م). و أنشأت نتيجة لذلك سوق الخرطوم للأوراق المالية التي تعد أحد أهم التحولات التي شهدتها هذه الطبقة لتوسيع نشاطها الطفيلي غير المنتج الذي يقوم علي هامش تداول أسهم مؤسسات الشعب المنهوبة التي تمت خصخصتها، و تضخمت أفرعها و أذرعها في مجال الوساطة المالية و السمسرة في الأسهم و الصكوك الإسلامية التي تمثل أكبر تجليات الإقتصاد الطفيلي غير الحقيقي عبر التوسع في عمليات السوق المفتوحة لتمويل صرف الدولة البذخي غير المنتج علي أجهزتها الحكومية المترهلة و علي الأمن و الحرب، و أيضا لمراكمة رؤوس أموال الرأسمالية الطفيلية المتأسلمة. و تحول بنك السودان لأداء لتكريس الإقتصاد السياسي لهذه الطبقة الحاكمة و دخوله صانعا للسوق المالي لمصلحتها بدلا من أن يكون مجرد سلطة حكومية عليا مستقلة مسئولة عن رسم السياسة النقدية و الرقابة عليها لمصلحة الإقتصاد الوطني و لمصحة رفع المستوي المعيشي للشعب. و تحولت وزارة الاستثمار إلي أداة لبيع أراضي الشعب و ثرواته الطبيعية لرأس المال الأجنبي لصالح الرأسمالية الطفيلية الحاكمة و تحويل عملية تشجيع الاستثمار الأجنبي إلي إداة من أدوات الجرائم الكبري للنصب علي رجال الأعمال الأجانب (خاصة الخليجيين) لمصلحة المتنفذين من السلطة الحاكمة و وكلائهم في وزارة الاستثمار و الخارجية و تحولت سفارات بلادنا في الدول النفطية و غيرها إلي دهاليز و طاولات مفوضات للصفقات التجارية المشبوهة المشروطة بعمولات لا طائل لها و أوكار لاستدراج رؤؤس الأموال العربية و النصب عليها و تحويل استثماراتهم إلي حالة درامية من الفشل و الضياع و الوقوع في دوامة الفساد المنظم في المؤسسات الحكومية و شبكاتها الإجرامية الفاسدة. حتي أصبحت سمعة السودان و السودانيين يتم تداولها علي قمة المحافل الإقليمية و العالمية و احتل السودان بجدارة قائمة أكثر الدول فسادا في العالم. فمنظومة الفساد و شبكته قد تجاوزت حدودها المحلية و النصب علي المال العام إلي منظومة دولية لها شبكتها من الوكلاء علي قمة هرم السلطة و مؤسساتها السيادية. و علي الرغم من هذه التحولات الخطيرة في تركيبة هذه الطبقة الرأسمالية و في تراكم رؤوس أموالها لمستويات غير مسبوقة إلا أن الواقع الاقتصادي المرير الذي تعيشه بلادنا (و المتمثل في ارتفاع معدلات التضخم (و الركود في آن واحد) و الارتفاع المتواصل للسلع و الخدمات الضرورية كالسكر و اللحوم و زيت الطعام و البقوليات و الأدوية و المستحضرات الطبية و الهبوط المتواصل لقيمة العملة المحلية و تردي الخدمات الضرورية المثمثلة في الصحة و التعليم و الأمن و في خدمات الماء و الكهرباء) و المرتبط (بجانب سياسات الدولة الخاطئة) بنشاط هذه الطبقة و هيمنتها علي كل مفاصل الاقتصاد و التي ترتبط بدورها بملفات الفساد الإداري و الإقتصادي، بجانب الصراعات التناحرية التي تحدث داخل هذه الطبقة نفسها و التي دفعت بالعديد من أفرادها لفضح ملفات فساد هذه الطبقة و حلفائها من المتنفذين في سلطة يونيو 1989م، لا يعبِّر فقط عن فشل هذه الطبقة و تجلي أكذوبة مشروعها الحضاري تحت ستار الدين و فشل خط التطور الرأسمالي عموما في تحقيق النمو الاقتصادي و الرفاهية لشعبنا، بل أيضا سيكون له الدور الكبير في تصفيتها مستقبلا و اتخاذ السياسات المالية و النقدية السليمة اللازمة لتجريدها من أدواتها و تساعد علي إحلال الدولة و مؤسسات الشعب و قواه المنتجة و كذلك الرأسمالية الوطنية المرتبطة باستراتيجيات التنمية التي ترسمها الدولة مكانها علي المدي الطويل. فشعارات الحركة الإسلامية و مشروعها الحضاري أصبحت أكذوبة مفضوحة لا تنطلي علي جماهير شعبنا و أداة من أدوات التندر و السخرية في فلكلور شعبن و في أعمال مبدعيه من فناني الكاراكتير و الرسومات المتحركة. [email protected]