إنفاذاً لحديث رئيس الجمهورية في مجلس الشورى بإفساح المناصب للآخرين، كان بدر الدين محمود وزير المالية بالأمس يبذل القسم في جلسة البرلمان يوم أمس، قبالة نواب الشعب: "والله حاستقيل". ولم تفلح جهود رئيس البرلمان إبراهيم أحمد عمر الرامية لإثنائه على اعتبار أن مثل هذا القرار مسؤولية مؤسسات أخرى. ولم ينته الأمر عند هذا المشهد بل لحقه عدد من الصحفيين بعد الجلسة، متسائلين عن ما إذا كان هذا القرار "رد فعل لمداولات ساخنة تداولتها الجلسات على مدى ثلاثة أيام حول معاش الناس"، فأكد لهم بأنه "قرار مدروس"، وسينفذه، وأن الأمر "لا علاقة له بالجلسات"، وما دار بها من انتقادات حادة صوبت للطاقم الاقتصادي بالبلاد، وفي مقدمته بالطبع حادي الخزانة نفسه. وقبل عامين بالتقريب، وفي حوار مع (اليوم التالي) التي دفعت إليه بسؤال: "متى سيستقيل وزير المالية"، كان بدر الدين يجيب: "نعم سأستقيل في حالة وقوف أي جهة ضد السياسات التي أطرحها، وإذا عجزت عن إنفاذ هذه السياسات بموجب أي عمل آخر مضاد، ولذلك أقول بوضوح إن الدعم المقدم لي من الأخ الرئيس في هذا المجال دعم كبير جداً، وأكثر من كل الوزراء.. لم يحدث أنني ذهبت للرئيس في قضية خلافية إلا ووقف مع وزير المالية في السياسات، وأيضا من النائب الأول. فلذلك الدعم الذي أجده إذا تناقص أو شعرت أنه غير كاف؛ عندها يستوجب الاستقالة أو الإقالة". حسنا، منذ جلوس محمود على كرسي وزارة المالية قبل ثلاث سنوات يحصد الرجل عدم الرضا تلو السخط من قبل الرأي العام، جراء سياساته. وعلى الرغم من محاولات جادة يدفع بها ويروم من خلالها إقناع المواطنين بأن الوضع الاقتصادي يسير على دروب التحسن والاستقرار، وهو بالطبع ما يجر عليه المزيد من الانتقادات، في ظل ظروف معيشية ضاغطة يعيشها المواطنون، خلافا لقرارات اقتصادية تؤثر بصورة مباشرة على الإنفاق وحركة الأسواق. ومسيرة الرجل، بالنسبة لمراقبين، تبدو زاخرة بالقرارات الصعبة، بدءا من تحرير القمح والغاز، وليس انتهاءً بقرار مرتقب يقضي بالاستمرار في رفع الدعم عن بقية السلع، ما من شأنه أن يجلب عليه المزيد من الحنق. يُضاف إلى ذلك أن كاهل الرجل ينوء بالنتائج غير المرضية للبرنامج الثلاثي، علاوة على فشل متوقع للبرنامج الخماسي. وفي جلسة البرلمان أمس (الأربعاء) كان محمود يجاهد لإقناع النواب بتحسن الوضع الاقتصادي، ويحكي عن "تحسن واضح في معدلات التضخم التي وصلت إلى 46% في الفترة الماضية"، وأن "متوسطها الآن لا يتجاوز ال 14%"، ما يعني أن "معدل الزيادة في الأسعار انخفض بمعدل كبير"، على حد قوله. ويسهب محمود في القول إن "المعدلات الاقتصادية لا تحسب بالزيادة في أسعار السلع الاستهلاكية"، وهي إفادة ربما احتملت معها همهمة النواب لحظتها التفسير؛ أن محاولات محمود للإقناع تذهب أدراج الرياج..! ليطالبهم رئيس البرلمان بالاستماع، وأن تكون لديهم روح رياضية. وهنا يعلن الوزير استقالته بعد إيداع الموازنة استجابة لمخرجات الحوار الوطني ولرئيس الجمهورية الذي طالب بالإفساح في المجالس خاصة فيما يختص بالإدارة التنفيذية. وبحسب محمود فإنه "سيبدأ بنفسه". ويلحظ مراقبون أن بدر الدين إبان تسنمه مقاليد المالية ظل يمتدح الجهود التي يبذلها. يقول الرجل في حوار أجراه معه الزميل محمد عبدالعزيز بالزميلة (السوداني) إنه "يتحدى أي شخص يكون في (الموقع) ويقدم أفضل من هذا العمل"، وتجاوز ذلك بأن "ما استطاع أن يحققه لن يتمكن حاوي من فعله" معتمدا في ذلك على تقارير المنظمات الدولية التي تشيد بمستوى الاستقرار في الاقتصاد السوداني، رغم ما يجابهه من صعوبات ومشاكل خاصة بعد انفصال جنوب السودان، وربما ذلك ما يجعل من مستوى الرضا عن الأداء عاليا لديه إضافة إلى ثقته بما يقوم به من أعمال. وثمة مطالبات عديدة دعا إليها نواب البرلمان لتغيير الإدارة الاقتصادية، وحملوها فشل السياسات الاقتصادية، وتردي الوضع الاقتصادي، وفي مواعيد متباينة حرص نواب على محاولة استدراج وزير المالية إلى قبة البرلمان كلما اشتدت وطأة الغلاء، أو راوحت أسعار السلع الاستهلاكية صعوداً صوب الغلاء الماثل، ولكن لم تكن هنالك آذان صاغية، إذ ظل الوزير على موقفه، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي تزيد من استياء الرأي العام. وتبدو تصريحات الوزير مجافية للواقع في أحايين كثيرة، بحسب ما تشي به إفادات الشارع. وآخرها ما صرح به في البرلمان بأن مسؤوليته تراوح توفير السلع وأن الأسعار ربما كانت خارج اهتمامه، أو كما قال، ثم أضاف: "إن السلع الأساسية متوفرة، مافي زول يسألني". وبدت التصريحات يمثابة خامة مناسبة لكتاب الرأي يعملون عليها أدوات النقد؛ يوجه الكاتب عادل الباز انتقادات حادة لوزير المالية بسبب هذه التصريحات في عدد (اليوم التالي) أمس الأول (الثلاثاء)، ويعدها غير متسقة مع قوانين الاقتصاد، لجهة أن توفر السلع في ظل ارتفاع أسعارها، يقود لحالة كساد اقتصادي، وهو مرض يصيب الاقتصاد، و"يتطلب معالجات جذرية لمعالجته، ويؤثر في الإنتاج، ويعمل على تدمير القطاعات الإنتاجية". وترسم النائبة سهام حسن عن حزب التحرير والعدالة من خلال تصريح سابق ل(اليوم التالي) صورة قاتمة عن أداء القطاع الاقتصادي خلال العام الجاري، حيث وسمت أداء الموازنة التي قدمت للبرلمان ب"الضعيف جداً"، لجهة أن الأرقام التي جاءت في تقرير أداء الربع الأول "غير واقعية، وغير مدروسة، مقارنة بأحجام المشروعات التي قدمتها وزارة المالية". واتهمت سهام (المالية) بأنها "سبب في إدخال السودان في أزمات اقتصادية متلاحقة، مما أثر سلبا على معايش الناس"، الأمر الذي أدى إلى "أن يدخل ثلاثة أرباع السودانيين في دائرة الفقر"، "معظمهم يعتمد على وجبة واحدة في اليوم"، بحسب النائبة. ومن وجهة نظر سهام فإن وزير المالية "فشل في إدارة الاقتصاد بعد أن ارتفعت معدلات التضخم بنسبة 100%"، حسب تقديرها، "وتضاعفت أعداد المشروعات التي لم يتم تنفيذها"، متسائلة في الوقت نفسه عن "عدم وجود استراتيجية واضحة في إدارة الاقتصاد". وثمة من يرى أن استقالة محمود في هذا التوقيت لن تكون حلا لمشاكل الاقتصاد السوداني، خاصة وأن الوزير ابتدر برنامجا اقتصاديا بعينه، كان من المنتظر أن يرى نتائجه، بدلاً عن التنصل من الموقع. وخلافاً لمنهج (النصف الفارغ من الكوب)، يحمد البعض لبدر الدين أنه أسس برنامج التحصيل الإلكتروني الذي عمل على ولاية المالية على المال العام اليوم التالي