وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجن بِدَّاوي ،،، كعب الإندراوة
نشر في الراكوبة يوم 17 - 07 - 2011


دقولك يا بشير
حق قولك يا بشير
ليس المقصود كما قد يبدو للبعض بهذا المقطع من الأغنية سعادة المشير (فالإسم سالم كما يقولون) و الأمر بالتأكيد مختلف فهذا مجرد مقطع عابر من مقاطع أغاني الزار أو الدستور التي يتغني بها أبطال حلقة الزار بعد الإنتهاء من مراسم العلبة و الكرسي و إستدعاء سلاطين الريح الأحمر من مختلف الجنسيات حبش، هدندوة، و خواجات و غيرها من قبائل الجن، و بشير هنا ليس البشير الذي نعرفه، و لكنه أحد سلاطين الجن العظماء الذين يتم إستدعائهم من خلال تلك الأغاني المحببة و المصاحبة لعملية الزار مثلها مثل:
اللول اللول يا لولية
بسحروك يا لولى الحبشية ،،، أو
أحمد البشير الهدندوى
توبو توب حرير الهدندوى
و لا يضير تطابق الأسماء، أو يصيب من حرج، بالذات عندما يكون الحديث عن موروثات شعبنا و تقاليده و عاداته و التي يأتي الزار من أكثرها إثارةً و متعةً و تشويقاً (بغض النظر عن رأي الناس فيه) و يقال أننا ورثناه عن الشمال من منطقة النوبة العليا والسفلى التي كانت تعج بشيوخ و شيخات و سناجك و نقيبات الزار و أن أول شيخ زار فى السودان (كما يروي في الروايات و الأسافير و الكتب) كان الخليفة نصر الدين الذى ظهر فى منطقة دنقلا ثم جاء بعده ود المبارك فى منطقة الشايقية و الذي ذاع صيته و تتلمذ علي يده العديد من شيوخ و شيخات الزار و الذي لعب دورا بارزا في نشر هذه الظاهرة الإجتماعية المثيرة للدرجة التي جعلت المحبين و المريدين ينظمون في سيرته و شياخته و قدراته الزّارية (إن جاز لنا إستخدام هذا التعبير) الأشعار و الأغاني و لعل أشهرها تلك المقاطع شائعة التداول المعروفة لدي الكثيرين القائلة:
ود المبارك شيخ الظهر
يا العليك ساسقت وفتر
شوفنى جنيت ولا دستر
أي أنا المرضان مكنتر
أما إذا حاولنا الحديث عن البشير الذي نعرفه في خضم هذا الموروث الإجتماعي المثير للدهشة و الإعجاب بملامحه و قسماته الفنية البحتة فالمسألة لا تقف عند حدود تشابه الأسماء فقط، فقد كنت و لا زلت أسأئل نفسي محتاراً دائما كلما شاهدت المشير في أحد مسارحه الصاخبة التي عادة ما يسدل فيها ستار الفصل الأول علي رقصته الهستيرية المشهودة تحت إيقاع أنغام موسيقي الفرقة الماسية و أحد أغاني العرضة التي يتم إختيارها بعناية فائقة تتناسب مع تقويسات و تعرجات بطل المسرحية ذات الأبعاد الملفتة للنظر، كيف يستطيع الرجل الإنتقال في لحظة خاطفة بمجرد إنتهاء الموسيقي و بشكل هستيري و قدرة خارقة للتحول السريع المفاجئ من حالة الرقص و الطرب إلي حالة التهليل و التكبير و من ثم إلي سلسلة من الضجيج و صخب الحديث الذي يرد الأمرد كهلا، كما يقولون، علي قول الشاعر العربي (فعلك لو تبدلنا صخوبا ،،، ترد الأمرد المختار كهلا) (و الأمرد هو الشاب الجميل). و علي نفس السياق (فالسعن المليان ما بيجلبغ) كما يقول المثل السوداني و السعن إذا إمتلأ باللبن لا يصدر صوتاً ويضرب للتدليل علي ان كثرة الضجيج تعني فقر المحتوي والعكس فان قلة الكلام و الضجيج تدل علي الرزانة والتعقل فالسواي مو حدَّاث كما يقول مثل آخر يقابل المثل الأول لحد كبير.
إنها حالة (سواءً في قصة بشير أو في مسرح المشير) أقرب و أشبه بحالة إزدواج الشخصية و تعددها أو ما يعرف في علم النفس بانفصام الشخصية و الذي يعبِّر عن حالة من حالات الإضطراب النفسي التي توجد فيها علي أرض الواقع أكثر من شخصية بكامل سماتها و خصائصها و طبائعها الظاهرة للعيان لدى الكائن البشري الواحد و لكن لا تظهر في كل حالة من حالات الإنفصام إلا شخصية واحدة فهو يختلف عن مرض الفصام أو الشيزوفرينيا الذي يعتبر مرض جسدي عضوي يصيب الدماغ و يؤثر بالتالي علي سلوك الشخص تأثيرا سلبيا. و عادة ما تكون لكل شخصية من الشخصيات المزدوجة أو المتعددة التي تتشكل في كل حالة من حالات الإنفصام صورة مكتملة بسلوكها و رغباتها و ميولها و ذكرياتها الخاصة و إسمها المختلف، مثل رواية الأديب الأسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون الشهيرة (دكتور جيكل ومستر هايد) التي اهتم بها علماء النفس لما فيها من تناول علمي عميق لما يدور بداخل النفس البشرية من صراعات و تناقضات، و هي تصور حالة من حالات إنفصام الشخصية تتمثل في دكتور جيكل الشخصية المعتادة التي تحب البطاطس المقلية و تكره المخلل و التي تخفي بين طياتها شخصية هايد القاتل المحترف المناقضة له تماما و التي علي العكس تحب المخلل و تكره البطاطس المقلية و في نفس الوقت ترتكب العديد من جرائم القتل بحق أبرياء دون أن تترك دليلا واحدا يساعد الشرطة علي كشفها و القبض عليها. أو مثل قصة كيفن كوستنر الذي يتحول إلى السيد بروكس في أحد أجمل أفلام التشويق الشهيرة بإسم (السيد بروكس) للمخرج بروس إيفانز و الممثل كيفن كوستنر و النجمة ديمي مور الذي تدور أحداثه حول إيرل بروكس (كيفن كوستنر) رجل الأعمال الناجح ورب الأسرة الذي يعيش حياة هادئة مع زوجته وابنته و يبدو فيه السيد بروكس على الظاهر شخصا مثاليا ولكنه يطوي في جانب آخر من شخصيته قاتلا محترفا ارتكب عددا من جرائم القتل التي لا طائل لها.
و يحدث إنفصام الشخصية عادة نتيجة لصدمة نفسية فجائية، أو بسبب التعرض لمشكلة لم يتمكن الشخص من إيجاد حل لها، أو بسبب ضغط عصبي متواصل نتيجة لضغوط إجتماعية أو سياسية أو إقتصادية معقدة لفترات طويلة، أو بسبب تصادم قناعات الشخص مع واقع الحياة اليومية و حقائقها، وقد يكون أيضا (و هذا من أكثر الأنواع شيوعا في الشرق الأوسط و المجتمعات المحافظة) عن الكبت الذي يعبِّر عن حالة معقدة من الميول و الرغبات التي تطرق باب العقل الواعي ولكنها لا تتوافق مع مجموع العادات و التقاليد و القيم الاجتماعية أو الدينية التي تشكل وعي الشخص، فلا يجد سبيلا للتنفيس عنها إلا عبر الاضطراب النفسي، لذلك فإن كثير من علماء النفس يجمعون علي أن مرض إنفصام الشخصية في عالمنا الشرقي المحافظ يعتبر مرضا أنثويا أكثر منه ذكوريا بسبب الإضطهاد النوعي أو الجنسي و الإجتماعي الذي تعيشه المرأة و الذي يحد من حريتها في التعبير عن ذاتها و عن ميولها و رغباتها على عكس الرجل. و تاريخ المجتمع البشري و حاضره حافل بصور كثيرة من صور إزدواج الشخصية و تعددها عند النساء فكثير منهن حوكمن بتهم السحر و الدجل والهرطقة و هن في الحقيقة ليس إلا ضحايا لهذا المرض النفسي المثير للشفقة. و لعل قصة الفتاة التي تنتمي لأسرة متدينة و تحرص دائما و بشكل ملفت للنظر و مبالغ فيه لستر كل جزء في جسمها بإرتداء أكثر أنواع الحجاب و النقاب تطرفا وفجأة و علي صوت الطبول و الموسيقي الصاخبة و الأغاني الراقصة في أحد بيوت الأعراس المجاورة و في لحظة معينة من لحظات الإنفصام الشخصي التي عجزت فيها نفسها تماما عن كبح جماح الميول و الرغبات المتدفقة بعنف للشق الآخر من شخصيتها المتمردة عن السياق العام لقيم المجتمع الذي تعيشه تخلع بشكل مفاجئ نقابها و تبقي بثيابها شبه العارية و تنطلق إلي مصدر صوت الموسيقي لتمارس الرقص ببراعة لا تقل عن أي راقصة محترفة وسط ذهول الحاضرين ودهشتهم (و تفيق بعد لحظات من سكرتها باكية لا تتذكر شيئا مما حدث) تمثل حالة أشبه بظاهرة الزار في مجتمعنا السوداني و التي تعبِّر و تصور بشكل صريح أحد حالات إنفصام الشخصية التي تعرف في الطب النفسي بالإضطراب الإنشقاقي و الذي يعبر بدوره عن حالة من حالات تمرد الجزء الكامن من الشخصية على السياق العام للمجتمع بصورة مفاجئة مليئة بالتحدي تدفع الشخص لتحقيق رغبات أو مطالب معينة (غالبا ما تكون غريبة و متناقضة مع السياق العام للشخصية) يمارس خلالها الشخص بعض أنواع اللغط الشديد مثل التحدث بلكنة أو لغة أخري مختلفة، أو أن يعبِّر عن نفسه بالتحدث على لسان جني فيطلب مثلا تحقيق أشياء معينة يعجز عن طلبها أو تحقيقها في حالة وعيه و شخصيته المعتادة مثل أن تتحدث إمرأة تكره زوجها في حلقة الزار و هي لا تستطيع التعبير عن نفسها في حالة وعيها المعتاد بلسان جني طالبة الطلاق منه ليتزوجها ذلك الجني الذي يعشقها.
تذكرت أثناء كتابة هذا المقال المثل السوداني الذي كان يردده دائما صديقي العزيز أبو الشوش منذ أكثر من ربع قرن من الزمان و لا يزال يردده كلما جاءت المناسبة (الجن بِدَّاوي ،،، كعب الإندراوة) و برغم أنني لم أكن أفهم المقصود تحديدا بالإندراوة و لم أبذل وقتها في الحقيقة جهدا يذكر في البحث و التقصي عن معناها و مدلولها إلا أن ما فهمته ضمنياً من سياق المثل أن هذي الإندراوة هي حالة غير قابلة للعلاج و أن الجن بكل المقاييس و بمختلف أشكاله أفضل منها لأن الجن داء و لكل داء دواء و المجنون يمكن أن يتم علاجه و يعود من جديد لشخص فاعل في المجتمع بل و يقدم للبشرية ما لم يستطيع تقديمه غيره من العاقلين، و المشاهد للفيلم الأمريكي (Beautiful Mind) أو (العقل الجميل) للمخرج رون هوارد و بطولة الممثل البارع راسل كرو تتجسد أمامه بكل بساطة هذه الحقيقة حيث يصور الفيلم القصة الحقيقية لحياة عالم الرياضيات الشهير جون فوربس ناش (جون ناش) الذي كان مهتما بنظرية الألعاب و الحائز علي جائزة نوبل للاقتصاد عن نظريته المعروفة التي تحمل إسمه (نظرية ناش للتوازن) و التي كانت لها إستخدامات عدة في التفاوض التجاري و ساعدت لحد كبير في بلورة كثير من المفاهيم التي أسهمت في إتفاقية التجارة العالمية و تأسيس منظمة التجارة العالمية. و قد أصيب جون ناش بمرض الفصام الإرتيابي عام 1958م نتيجة لخلل عضوي في دماغه و قد تمت معالجته كغيره من أمراض الجنون (مصداقاً لما يردده صديقي أبو الشوش) في مستشفى ماكلين للطب النفسي خلال فترة طويلة معقدة مشحونة بالمعاناة و المواقف المحزنة المثيرة للشفقة ولكن ذلك لم يمنعه من أن يكون عبقرياً فذاً و عالما بارزا ينال بكل جدارة و تقدير جائزة نوبل للإقتصاد.
و بما أن هذا النموذج من الجن الجميل المثمر لا يوجد في بلادنا و لم يحدثنا تاريخ الطب النفسي في السودان عن حالات عاد فيها المجنون لكامل وعيه بالذات في هذا الزمان الممتد منذ أكثر من عقدين، و غالبا ما يكون مصير مثل هذه الحالات محزنا و لا تؤدي بصاحبها إلا إلي مزيد من الجنون، فواقع الحال يدفع العاقل للجنون فما بالك بالمجنون.
و الإندراوة كما جاء في إجتهادات كثير من مفسري الأمثال السودانية تعبِّر عن الحالة ما بين العقل و الجنون كجنون العظمة والغرور والسذاجة وكل الحالات والتصرفات الغريبة التي تصدر عن الشخص غير المجنون تماماً و من أبرزها التناقض و الإضطراب في المواقف و التردد و إزدواج الشخصية و تعددها و يصعب علاجها لأن الشخص الذي يعيشها هو في الغالب يعيش حالة تصادم حاد بين أفكاره و معتقداته التي يؤمن بها و بين الحقائق علي أرض الواقع التي هي بكل بساطة فشل مبين لكل هذه المعتقدات التي يؤمن بها و في نفس الوقت يمنعه كبريائه أو إندراوته (إن جاز لنا إستخدام هذا التعبير) من الإعتراف بالفشل لذلك تجده دائما في حالة إهتزاز و إضراب مستمر و خواء كامل (يشبه لحد كبير خواء شخصية الزين في رواية عرس الزين) تسهل معه عملية شحنه و تفريغه سواءً من قبل الشق الآخر غير الإنساني من شخصيته بكل صلفها و شذوذها و سلوكها و قيمها الخارجة تماماً عن السياق الإجتماعي المعتاد و المقبول قبولا عاما، و يشعر دائما بالزهو و الإدعاء الذي يدفعه لتبرير مواقفه الخاطئة و الإصرار عليها و من هنا كانت الإندراوة أكثر خطورة و إثارة للشفقة من الجنون.
هذه هي للأسف الحالة التي تعيشها بلادنا اليوم في ظل الطغمة الحاكمة التي يعاني كل المنتسبين إليها دون إستثناء حالة الإندراوة و حالة الزهو و جنون العظمة و تعدد الشخصية فتارة تبدو عليهم مظاهر رجالات الدولة عندما يتحدثون عن السلام و تارة أخري تجدهم من دعاة الحرب، يتحدثون عن الفساد و لكل واحدا منهم شقا آخر غارقاً لأخمص أذنيه في الفساد، يظهرون بياقاتهم الوردية الزاهية و يبدو عليهم الوقار و هم يتحدثون عن التنوع و علي جباههم سمات لصلاة لم تنهيهم عن فحشاء أو منكر و لكنهم كدكتور جيكل و مستر بروكس في داخل كل واحد منهم قاتل محترف لا يرحم و مجرم حرب يمارس الإبادة الجماعية و التطهير العرقي في دارفور و جنوب كردفان بكل هدوء و هم جالسون علي مكاتبهم و أبراجهم العاجية و قصورهم الماجنة، يتحدثون عن الشفافية و الصدق و تجدهم يمارسون الكذب علي الملأ دون حياء و بلا حدود أو تلعثم و الواقع يفضحهم كما قال عنهم أديبنا الراحل الطيب صالح في خاطرته من أين أتي هؤلاء (هل ما زالوا يتحدَّثون عن الرخاء و الناس جوعي؟ و عن الأمن و الناس في ذعر؟ و عن صلاح الأحوال و البلد خراب؟) و عندما تستمع لوزير الزراعة أو الصناعة أو نائب الرئيس أو أي واحد منهم يتحدث عن قضايا البلد تعتقد بأن السودان قد أصبح دون علمك من الدول الثماني العظمي للدرجة التي تكاد فيها أن تصدق ذلك، و عندما تشهد القنوات السودانية تحس بأن بلادنا تعيش في كوكب آخر معزول عن الواقع و تستدعي ذاكرتك مباشرة المثل المأخوذ عن قصة أهلنا الحسانية (الناس في شنو و الحسانية في شنو)، تشاهدهم في الصفوف الأمامية في المساجد الفارهة يتضرعون لله و يذرفون الدمع من البكاء و في اليوم الثاني تجدهم يرمون المحصنات من النساء و يغتصبونهم و يمارسون القمع و التنكيل و التعذيب في حق الأبرياء من الأطفال و النساء و الشيوخ. يتحدثون عن الوحدة و هم من دنس العلم و قسَّم البلد إلي بلدين و قدم القرابين إحتفاءاً بذلك الفتح المبين في نظرهم في مشهد أقرب لطقوس السحر و الشعوذة و الدجل و حلقات الزار، التي تجسد أبرز صور الإنفصام الشخصي الناتج عن فشل أكذوبة مشروعهم الحضاري الكبير الذي تمخض اليوم و أنجب السودان الشمالي و السودان الجنوبي و كلما إشتد فصامهم و أصروا علي المضي قِدما فيه كلما تمخض ما تبقي من الجبل لينجب سودان ثالث و رابع و هكذا حتي يتمخض في نهاية الأمر لينجب فأرا ضيق الأفق في حدود كافوري أو حوش بانقا.
تجدهم أيضا في مسارحهم الهستيرية الصاخبة (التي لا تختلف عن حلقات الزار) يهاجمون أمريكا و الغرب و يضعونها تحت أنعلتهم بالصخب و الضجيج و عندما تهدأ الدنيا تجدهم يجوبونها من المحيط إلي المحيط بين عواصم الغرب يتبادلون القبل و الإبتسامات الهادئة و يعرضون خدماتهم علي سادتها و ينشدون نتانة أحذيتهم و يطلبون نصيبهم مقابل عمالتهم علي الملأ. تشهدهم هائمون في ملكوت الله في موضة حلقات الذكر الصاخبة في بعض أطراف العاصمة المثلثة و ضهاريها لأوقات متأخرة بعد منتصف الليل ليتحللوا من سوء أفعالهم اليومية و هم يرددون
نسمات هواك لها أرجو تحيا وتعيش بها المهجو
ما الناس سوى قومٍ عرفوك وغيرهم همج همجو
دخلو فقراء إلى الدنيا .. وكما دخلو منها خرجو
قوم فعلوا خيراً فعَلو وعلى درج العليا درجوا
و عندما تشرق شمس اليوم الثاني تجدهم و بنفس وتيرة هستيريا حوليَّة البارحة يتسابقون علي خزائن الدولة و ما فيها و لسان حالهم يردد و يقول
لِحسوا القداحة النبدلو
خموها و ما راعو و عدلو
إتنحنحو لموها و قدلو
دخلو القصور قعدو أم قللو
الله يجازي الهبرو ملو
ثم يعيدون الكرة كل يوم "يسبِّحوا بالليل و يضبِّحوا بالنهار" (كما يقول المثل) فليس هنالك مشكلة في نظرهم طالما هم يتبعون سيئات أعمالهم بالنهار بحسنات الذكر ليلا إعمالا بقول المصطفي عليه الصلاة و السلام (أتبع السيئة الحسنة تمحها) و قوله تعالي (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَ زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) و هم بذلك يكذبون علي الله و يتحايلون علي الدين و مقاصد العبادات و يتعاملون معها بمنطق الربح و الخسارة و يجسدون أكثر حالات مرض إنفصام الشخصية خطورةً دون أن يشعروا بذلك كما يقول الله في سورة البقرة (وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّه وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسهمْ وَمَا يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)
و لن تنفعهم أو تنجيهم من العذاب حلقات الذكر أو بناء المساجد الفارهة المزخرفة فالمولي عزّ و جل غني عن كل ذلك و قد ورد في المسند، وصحيحي إبن خزيمة، و إبن حبان، وسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ". ويروى أيضاً (عن جمع من الصحابة منهم أبو هريرة، وأَبُو الدَّرْدَاءِ، وأبوذر، وأبو سعيد، رضي الله عنهم أنهم كانوا يقولون: إذَا حَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ وَزَخْرَفْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ فَالدَّمارُ عَلَيْكُمْ). السودان حافل بشيوخه و علمائه و عباد الله الصالحين و سيرهم مدونة و مسجلة و محفوظة في تاريخ بلادنا و لم يكن من بينها والد المشير.
جميل أن يبر الإنسان بوالديه فهذا من قيم الدين السمحة و لكن بناء مسجد بهذه الفخامة التي تضارع تاج محل فخامةً في كثير من الجوانب و تضاهي أفخم المساجد في العالم ليس في الإسلام من شئ حسب تقديرنا و كان من الأجدي أن تستغل المبالغ الطائلة التي أنفقت في تشييده لبناء آلاف المساجد في آلاف القري و الأرياف في أقاليم السودان التي تفتقر حتي لمساجد من الجالوص بما في ذلك ولاية الخرطوم نفسها.
و لكن القضية أعمق من ذلك و هي مرتبطة إرتباط وثيق بحالة الإنفصام الشخصي التي يعانيها أبطال المشروع الحضاري و التي تجعلهم يشعرون بالزهو و جنون العظمة كما قلنا و فكرة هذا المسجد تجسد أرقي صور جنون العظمة التي لا تختلف في جوهرها و محتواها عن المصحف الذي كتب بخط اليد في العراق بدم صدام حسين بناءاً علي تعليماته في نهايات عهده و بفتوي مفصَّلة من المريدين و حاشية السلطان و الله غني عن دماءه النجسة الملوثة بدماء مئات الآلاف من العراقيين. و لكنه جنون العظمة فماذا نقول ؟؟؟
الهادي هباني
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.