ربما كنت تعتقد أن السودان، بعد فصل الجنوب عنه، سيعيش فى الشمال حالة من التماسك السياسى والثقافى والعرقى، وأن الرئيس السودانى عمر البشير حين بشَّر الجميع بتطبيق الشريعة الإسلامية، وقال إنه بعد انفصال الجنوب لا مجال للحديث عن التعدد والتنوع فى السودان كان محقا، لكن الحقيقة أنه تصوّر مجافٍ تماما للواقع، فالتنوع فى السودان قائم فى الشمال كما هو حتى بعد فصل الكتلة الأكبر فى الجنوب. فالمسيحيون غير الجنوبيين موجودون فى الشمال، وكذلك الأقباط التابعون لكنيسة الإسكندرية، الذين استوطنوا الشمال قبل مئات السنين، أو اعتنقوا المسيحية حين كانت الديانة الأولى لدولة النوبة العظيمة، التى استقرت على ضفاف النيل فى شمال السودان. أضف إلى ذلك التباين القَبَلى والعرقى بين القبائل الرئيسية المكونة للنسيج العام لمجتمع الشمال، سواء فى الشمال حيث يوجد النوبيون، أو فى الغرب حيث قبائل دارفور، أو فى الشرق حيث القبائل العربية المتبادلة بين شرق السودان والجزيرة العربية، أو فى مناطق الوسط التى ظل أغلبها أيضا مناطق مقفولة إما بشكل طبيعى بسبب الوضع الجغرافى أو بسبب القيود السياسية الاستعمارية، التى استمرت مع سياسات التهميش والإقصاء من المركز طوال السنوات الماضية منذ زمن الاستقلال. الأرجح أنك تعرف الكثير عن أزمة الغرب فى دارفور بسبب التركيز الدولى عليها، والاهتمام الإعلامى بها، لكنك لابد أن تلتفت إلى أن هناك «جنوبا جديدا» يتشكل فى السودان من المناطق التى كانت، حسب الخريطة الكاملة للسودان الواحد، تقع قرب الوسط، وتحوّلت مع الانفصال إلى مناطق حدودية بين الشمال والجنوب. عندك منطقة «أبيى» المتنازع عليها بين الشمال والجنوب، لكن الأهم منها هى مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان وجبال النوبة، التى باتت تمثل جنوبا جديدا ممتدا حتى الحدود الشرقية مع إثيوبيا، ولديه ذات المشاكل من تهميش وإقصاء للثقافات المحلية وبطء التنمية، وتدور فيه الآن نزاعات وتوترات مسلحة. مسألة «أبيى» بسيطة رغم التوترات، فقد حسمتها اتفاقية «نيفاشا»، التى جلبت السلام ومنحت الجنوبيين حق تقرير المصير عبر استفتاء محلى، لكن الأهم أن الاتفاقية ذاتها اعتمدت نظام «المشورة الشعبية» فى الولايات الحدودية، صحيح أنها حسمت تبعيتها للشمال، إلا أن المزاج العام فى النيل الأزرق الذى يفضل طلب «حكم ذاتى» للولاية، ونصيبا من الثروة والسلطة، يرسخ تشكّل هذا الجنوب الجديد حتى بعد استقلال الحركة الشعبية بدولتها فى «جوبا». حاكم ولاية النيل الأزرق «مالك عقار»، هو أيضا رئيس الحركة الشعبية فى الشمال، وأعلن أنه طلب فى استمارة «المشورة الشعبية» الخاصة به «الحكم الذاتى»، واحتج مؤخرا على انفراد الخرطوم بإقرار قانون «المشورة الشعبية» ولم يستبعد اللجوء إلى الفاعليات الدولية لتطوير هذا المطلب إلى «تقرير المصير» ليترجم مقولة زميله الجنوبى فى الحركة «إدوار لينو» بأن «السودان مثل طبق الصينى الذى سقط من يد البشير ليصطدم بالواقع ويتفتت». بقى أن تعرف أن ولاية النيل الأزرق هى امتداد طبيعى للهضبة الإثيوبية، وإذا كانت هناك أهمية استراتيجية لجنوب السودان تتعلق بمياه النيل، فأهمية منطقة النيل الأزرق أكبر، لأن ٨٠% من المياه الواردة إلى الشمال تمر عبرها. هناك «جنوب جديد» يتشكل فى السودان الشمالى إذن، بنفس المشكلات التى أدت إلى انفصال الجنوب القديم، ولا يبدو أن هناك من يستوعب هذه التحديات، لأن الخطاب الرسمى مازال مستمرا فى رفض الاعتراف بالتنوع، وسيواصل السودان دفع الثمن.. حتى بعد أن صار نصف سودان! الشروق