أعلن جنوب السودان انفصاله وقيام دولته رسمياً في التاسع من يوليو 2011م، ويكاد الجميع يجمع على أن ذلك الحدث المحزن والمؤسف يعود في الأساس إلى أخطاء وخطايا أبناء شمال السودان التي في مقدمتها: أولاً: ظلم أبناء الجنوب وعدم إعطائهم نصيبهم العادل في السلطة والوظائف العامة والخدمات والتنمية. ثانياً: الحنث بالعهود والمواثيق التي التزموا بها تجاه إخوانهم في الجنوب، ابتداءً من الوعد بالفدرالية مباشرة قبيل استقلال السودان في عام 1956م، واتفاقية السلام التي أبرمت في 1972م، والمشاكسة في تنفيذ اتفاقية السلام الشامل التي أبرمت في 2005م وأدت إلى انفصال الجنوب. ثالثاً: الاعتداء الصارخ على الخصوصية الدينية والثقافية لأبناء جنوب الوطن، ومحاولة طمس ثقافتهم وهويتهم وإجبارهم على اتباع قيم أخلاقية وقواعد سلوك لا يعرفونها ولا يؤمنون بها، ومثال ذلك ضربهم وإدخالهم السجون على صنع وشرب الخمر، في مخالفة صريحة لتعاليم الإسلام الذي يأمر باحترام الخصوصية الدينية والثقافية لكل أصحاب الملل والنحل. رابعاً: عدم إدراك المخاطر التي تنطوي عليها الأخطاء والخطايا المذكورة أعلاه، والاستخفاف بردة فعل أبناء الجنوب ولأسباب مخجلة، مثل القول «العبيد بسووا شنو؟». وكما قال صديقي زميل الدراسة الأستاذ محجوب عروة في صحيفة «السوداني» عدد التاسع من يوليو 2011م «نتحمل كلنا نحن أبناء الشمال المسؤولية عن انفصال جنوب الوطن. ولكن أعتقد أن أنصبتنا في المسؤولية عن ذلك تتفاوت». من صاحب النصيب الأكبر في المسؤولية؟ تختلف وتتباين أنصبتنا في المسؤولية عن انفصال جنوب السودان حسب مواقعنا في اتخاذ القرارات الخاصة بإدارة الدولة، سواء باتخاذ قرارات ضارة أو التقصير والعجز والتردد في اتخاذ مواقف وقرارات صائبة وإيجابية، كما تختلف أنصبتنا في المسؤولية حسب المواقف السلبية الصارخة التي اتخذها بعضنا، مثل فتوى الدكتور حسن عبد الله الترابي بعد ثورة أكتوبر 1964م بأنه لا يجوز لغير المسلم أن يكون رئيساً لدولة أغلبية سكانها من المسلمين. ولا شك أن نصيب السادة الذين تولوا منصب المسؤول التنفيذي الأول في السودان أو رئيس الجهاز التشريعي القومي «البرلمان» أكبر من مسؤولية بقية أبناء شمال السودان. فكل من السادة المرحوم إسماعيل الأزهري والمرحوم عبد الله خليل والمرحوم الفريق إبراهيم عبود والسيد الصادق المهدي والمرحوم جعفر نميري وعمر حسن أحمد البشير، يتحمل مسؤولية كبيرة، إما لاتخاذه مواقف وقرارات خاطئة وضارة، أو لفشله وتقصيره وتردده في اتخاذ قرارات صائبة وإيجابية. ويتحمل كل من أتى منهم لاحقاً مسؤولية أكبر من الذي سبقه، لأن بوسع الذي يأتي لاحقاً تصحيح أخطاء وخطايا من أتى قبله «سبقه»، أو على الأقل تقليص تأثيراتها السلبية. وقد شاء الله أن يكون نصيب عمر حسن أحمد البشير في المسؤولية عن انفصال جنوب الوطن أكبر من مسؤولية أي شخص آخر من أبناء شمال السودان، بحكم الموقع الذي شغله ولمدة طويلة، ولأن الانفصال قد وقع في عهده. ويجب أن نحمد له إقراره بتحمل تلك المسؤولية، لأن هذا الاعتراف يتطلب شجاعة كبيرة. وسوف يتحمَّل عمر البشير اضافة إلى ذلك، المسؤولية عن نوع العلاقة التي سوف تنشأ بين دولة جنوب السودان ودولة الشمال. فإذا ما التزم التزاماً جاداً وصادقاً بما قاله في حفل إعلان قيام دولة جنوب السودان في التاسع من يوليو 2011م، وبما قاله أمام المجلس الوطني لدولة شمال السودان يوم الأربعاء الثالث عشر من يوليو 2011م، قد تنشأ علاقة تقوم على حسن الجوار بالمعنى السوداني، حيث البيوت المفتوحة والتعاون في السراء والضراء. ولكن إذا لم يلتزم، قد يتخذ قرارات تؤدي إلى نشوء علاقة تقوم على العداء وإهدار الوقت والموارد البشرية والمالية في المكايدة ومحاولة خلق المصاعب وربما الاحتراب. ليس بروح تنفيذ اتفاقية السلام الشامل: قال عمر البشير في كلمته أمام المجلس الوطني يوم الأربعاء 13 يوليو 2011م: «إننا بذات الروح التي مضينا فيها لتطبيق كافة بنود الاتفاقية، سنقبل على معالجة المسائل المتبقية والعالقة رغم حساسيتها»، ويقصد بالاتفاقية اتفاقية السلام الشامل التي أُبرمت في عام 2005م وأدت إلى انفصال جنوب السودان. ولا أعتقد أن الروح التي نفذت بها تلك الاتفاقية تصلح لإقامة علاقات تقوم على الود والاحترام وحسن الجوار. فقد كانت المناورة والمكايدة والفهلوة ومحاولة خلق المصاعب هي السمات الأساسية للروح التي نفذت بها الاتفاقية. ويبدو لي أن بعض الإجراءات التي اتخذت في الأيام الماضية قد اتخذت بذات الروح، ومن تلك الإجراءات منع دخول الذرة إلى جنوب السودان، وطرد أبناء جنوب السودان الذين يعملون في حكومة الشمال، وذلك على الرغم من أنهم يحملون الجنسية السودانية. وقد كتب الدكتور صديق تاور كافي مقالاً رائعاً حول الموضوع نشر في جريدة «الصحافة» السودانية عدد 14 يوليو 2011م، فإن المنطق القانوني والأخلاقي والسياسي السليم يستوجب منح أبناء جنوب السودان الذين يقيمون ويعملون في الشمال وقتاً كافياً لتوفيق أوضاعهم والتقرير بشأن الاستمرار في العيش والعمل في شمال السودان أو الذهاب إلى الجنوب. وكنت أتوقع أن يستجيب عمر البشير فوراً لطلب الإخوة في جنوب السودان بإقرار الحريات الأربع لكل من مواطني دولة الجنوب ودولة الشمال، وهي حرية الانتقال «أي حرية الدخول والخروج»، وحرية الإقامة المستمرة، وحرية العمل، وحرية تملك الأصول المالية من أرض ومبانٍ ومنشآت انتاجية وغيرها، لأن في إقرار تلك الحقوق حمايةً لمصالح أبناء الجنوب الذين يعملون في الشمال ومصالح أبناء الشمال الذين يعيشون ويعملون في الجنوب، وسوف يخلق ذلك شعوراً لدى كل السودانيين في الشمال والجنوب، بأننا مازلنا شعباً واحداً يعيش في أرض واحدة، ولكن تحكمنا حكومتان، حكومة في الشمال وحكومة في الجنوب. وهناك إجراءات أخرى كثيرة يمكن أن يكون لها تأثير وجداني إيجابي قوي وعميق. ولكن يبدو أن ذلك هو بالضبط ما لا يريده بعض أبناء شمال السودان أصحاب المشاعر العنصرية والكراهية العميقة لأبناء الجنوب. ويبدو أن لهؤلاء وجوداً قوياً ومؤثراً جداً في اتخاذ القرار في نظام الإنقاذ. وإذا كان عمر البشير يستمع إلى هؤلاء ويبني قراراته بناءً على نصائحهم، فإنه سوف يقود دولة السودان وبدون شك إلى عداء مع دولة الجنوب قد يؤدي إلى تمزيق ما تبقى من السودان. الصحافة