من يتأمل في ظاهرة تشبث الحكام العرب بالسلطة يستغرب من وجود تشابه كبير بينهم، يصل أحيانا الى درجة التطابق، كما لو أنهم تخرجوا من أكاديمية واحدة، يمكن تسميتها بأكاديمية الرؤساء العرب. الأكاديمية التي لا يجد لها المرء مثيلا لا في الشرق ولا في الغرب. ويأتي التشابه في اكثر من سلوك وفعل، اذ لاحظنا من خلال الأزمات التي عاشتها معظم البلدان العربية، ان ثمة تطابقا بعض الأحيان في اللغة، والمصطلحات، وحركة الجسد، والانفعالات، والشتائم، المستخدمة من قبل اولئك الحكام. تعاملهم مع ما كان يجري في بلدانهم كاد ان يمتلك الرؤية ذاتها، الأمر الذي يزيد من حقيقة تشابه العقليات، والرؤى، والمعتقدات، في مقاربة اللحظة الوطنية والعالمية الراهنة..هم بالمحصلة، وكما لوحظوا خلال أزمات بلدانهم، خارج التاريخ. يتحرك العالم في مسار وهم يتحركون في مسار معاكس، تلفهم حزمة من الأوهام، والبديهيات، والأحكام الجاهزة، ليثبتوا من خلال ذلك انهم لم يكن لديهم، في ايما مرحلة سابقة، تواصل حقيقي، لا مع شعوبهم ولا مع العالم ومنطقه، ومنظوماته، ودبلوماسيته. حاكم السودان على سبيل المثال، خلال أقل من سنة، ونتيجة لادارته اللامنطقية للحكم، فقد ثلث البلد، في ما صار يعرف بجنوب السودان. لكنه رغم ذلك لما يزل على هرم السلطة، لم يحاسبه دستور، ولا خرجت ضده مظاهرات يعتد بها. ولم يعترف ان ما حصل هو نتيجة لسياساته الخاطئة هو وطاقمه، وتشكيلته الوزارية، ومستشاروه. لم يعترف حتى مجرد اعتراف ان العقود الماضية من حكمه كانت تعاني من خلل بنيوي جاءت مقدمة لما آلت اليه الأوضاع. فرض حاكم السودان الشريعة على الجنوب، رغم ان سكانه مسيحيون وإحيائيون، وأثار النعرات القومية، وقام بتصفيات ترتقي الى مصاف الجرائم ضد الانسانية نحو اثنيات من شعبه، وأرجع السودان الى فضاء القرون الوسطى بديكتاتورية مقيتة تستند زورا الى الشريعة. اعتقد ان القوة هي السبيل الوحيد لحل مشاكل البلد. حاكم يفقد ثلث بلده ويبقى في الحكم واثقا من حكمته، ومن ادارته، وكأن ما يجري يقع في مكان آخر. اذن تجاهل ما يحصل من كوارث في بلد الحاكم سمة ملازمة لمعظم اولئك الحكام، وهذا ما بثته الفضائيات حين اظهرت العقيد القذافي يلعب الشطرنج فيما تلتهب ليبيا بنيران الثورة والتمرد، وقد اصبحت بنغازي، ومصراته، وأجدابيا، وأكثر من ثلاثة ارباع ليبيا تحت سيطرة الثوار. وقصف طائرات النيتو على ليبيا لم يتوقف طوال اشهر. هو يريد ان يثبت للعالم انه قوي، وانه لا يعير اهمية للمآسي الحاصلة في البلد، وكأنه بذلك يؤكد صحة وصف البعض لهكذا حكام بانهم متبلدو الحس، فقدوا الارتباط بواقعهم منذ زمن طويل. اسلوبهم في ادارة الدولة قائم على تقارير الحاشية، ودوائر الأمن والمخابرات التي لا تعكس له سوى الصورة التي يرغب فيها. وللأمر وشيجة ايضا مع فكرة التشبث بكرسي الحكم، حتى آخر رجل في دولته. وكان المثال السابق، والنموذج، لظاهرة الحكام العرب هو صدام، حيث ربط بقاءه ببقاء العراق، فكان ان ادخل البلد بثلاث حروب خاسرة، وبقي يعتبر نفسه منتصرا الى ان اقتلعته قوات التحالف في التاسع من نيسان من كرسيه الاسطوري الذي حافظ عليه بثمن بلغ ملايين الضحايا، ومئات مليارات الدولارات احرقت على الجبهات، وتشرد ملايين من الشعب الى دول الجوار، وانهيار اقتصادي، واجتماعي، وسياسي، لم يشهده العراق منذ تأسيس الدولة في عشرينيات القرن المنصرم. هو نموذج آخر للحاكم الذي يربط وجود البلد ببقائه على الكرسي. رسالة القذافي، لاعب الشطرنح على نور حرائق ليبيا، كانت تريد القول ان كل ما يجري في البلد لا يهز ثقة الرئيس بنفسه وحكمه، وهو ترميز لاحتقار شديد للشعب الذي يحكمه. هم حسب قوله جرذان، ومكبسلون، وقطاع طرق، وهو وصف استخدم من اغلب الحكام العرب لوصف تمرد شعوبهم، بهذه الصيغة او تلك. في سورية متآمرون وسلفيون وخونة، وفي اليمن ارهابيون وانفصاليون، وفي مصر تحركهم قوى خارجية، وفي تونس كذلك، وكأن الحاكم العربي لا يرى في شعبه سوى اولئك النمط من المواطنين، يقابلهم نمط العبيد الذين ينبغي ان يحتفظ بأغلاله. عبيد عليهم أن يطردوا من رؤوسهم قاموس التمرد، والثورة، لكي يحظوا برضا الرئيس، الزعيم، القائد، العقيد، ملك الملوك، وأمير الأمراء. اما انا او الفوضى، هي المقولة المحببة لدى الحكام العرب، وهذا يوحي باعتقادهم انهم فوق البشر، اي لا تنطبق عليهم القوانين الانسانية التي يسير عليها العالم المتحضر في الشرق والغرب، الشمال والجنوب. وطبعا المؤسسات الشكلية التي اوجدوها كالدستور، والقانون، والقضاء، والوزارات، والمحافظات، وحتى المنظومات الكهنوتية، عليها ان تؤيد هذه المقولة يوميا. لا تناقشها، والا فالطرد من جنة السلطة يمكن ان يحصل في اي وقت، ولأي كان. المفارقة في معظم البلدان الثائرة تلك ان الأحداث اثبتت ان هناك فجوة هائلة بين الحاكم والشعب، الحاكم ظل على قناعاته الصلدة العتيقة في ادارة اقطاعيته، رغم الاحتجاجات والتمردات والنصائح والكوارث اليومية، والشعب الذي وجد نفسه في زمن الحداثة، وحقوق الانسان، والحريات الشخصية، والمساواة. الحاكم ميت والشعب حي، الشعب الذي يتفاعل مع حاضره بكل قوة. لقد فقد الحاكم مرونته، جسديا ومعنويا، وهذا ما يلاحظ حتى في سلاسة الكلام اثناء الخطب التي يلقيها، فهو يتفوه بكلام متعثر، مرتبك، غير مترابط، مباشر ومنفعل، يكشف عن اعماق خاوية سببتها بلادة السلطة التي استمرت عشرات السنين. من يتذكر صدام حسين في أواخر أيامه وهو يتحدث، يستحضر الكلام غير المترابط، والعنجهية في المفردات، والرطانة التي لا علاقة لها بواقع الحال. وكان آخر ظهور لعلي عبدالله صالح وهو على سرير المرض صادما. ظهر بوجه محروق، وملفوف الرأس واليدين، وبدا وهو يلقي حديثه الى العالم، عبر الفضائيات، كما لو أنه مومياء بعثت من عصور فرعونية سحيقة. كان واقع الرجل هو ذاك، اما كلامه فيحمل كل مواصفات حاكم عربي قوي، متجبر، يتشبث بالسلطة عبر كل خلية من خلاياه المحترقة، غير آبه للملايين المتظاهرة في تعز وصنعاء وأبين، في الأسواق والطرقات، مع انشقاق نصف مؤسسته العسكرية. وهذا تحديدا حال العقيد، حين خرج الى الجماهير من فوق برج عتيق، بملابس رثة، ووجه محتقن، ولحية خفيفة مبعثرة على وجه عجوز، مهزوم، لا يتناسب مع اللغة النارية التي تسببت بتطاير الزبد من شفتيه كجمل تائه في الصحراء الليبية الكبرى. أزمة الحكام العرب التي نراها في دول عديدة اليوم، تكاد تنطبق على الجميع، حتى في الدول الأقل تأزما، وهي لم تأت من فراغ بالتأكيد، بل جاءت نتيجة عقود من الحكم المنحرف والشاذ. الحكم المتمثل بوجود طبقة سياسية فوق القانون، ينتمي اليها الرئيس ذاته. تلك الطبقة مارست الفساد والافساد، وبرعت في تزوير الانتخابات، وفرّغت العقل، وجيّرت البلد لمصالحها الخاصة، وتحالفت مع الشيطان لبقائها في الحكم تحت مظلة الرئيس. ولم تستفد، جميعها، من دروس التاريخ كونها لا تقرأ، وجعلت من سلطة المال والنفوذ بديلا عن المعرفة والانفتاح والتعدد السياسي. من هنا ليس غريبا القول ان ردات فعل معظم الرؤساء العرب لن تختلف في حالة حدوث ازمة وطنية عما سار عليه العقيد، وعلي عبدالله، ومبارك، وزين العابدين، وبشار الأسد، ومن قبلهم صدام حسين.. هؤلاء شكلوا انموذجا لمؤسسة رئاسية عفا عليها الزمن، وتجاوزها تطور الشعوب وتوقها الى حياة غير التي هم في اتونها. الرافدين