برأي الكثير من المحللين فإن الجماهيرية الليبية، من الدول العربية التي عاشت فصولاً من القهر السياسي منذ أن اعتبر زعيمها معمر القذافي (الكتاب الأخضر) بمثابة المنهج السياسي لبلاده، ونتيجة لذلك غابت الأحزاب السياسية أو غيبت لصالح حركة اللجان الثورية، ولهذا السبب استطاع رئيسها الحفاظ على نظامه لأكثر من أربعة عقود. وبحسب هؤلاء فإن هذا المنهج أدى تدريجياً إلى سيطرة وهم (الزعامة) على شخصية العقيد، الذي نصب نفسه قائداً ملهماً وملكاً للملوك، وأصبح يمارس هذا النمط من التفكير في كثير من تعاملاته، داخل ليبيا وخارجها، كما انعكس من خلال الحركات المعارضة منذ أمد بعيد حتى يستطيع مساعدتها في تغيير أنظمة بلدانها. والقذافي كما وصفه آخرون اعتمد على قبيلته وسلطة القمع من أجل البقاء في السلطة وسخر كل الإمكانيات لتحقيق هذا الهدف، ويمتلك حرساً خاصاً خصصه لنفسه، وما يسمى براهبات الثورة لا يعرفن، أباً أو أماً غير القذافي، وكما قال أحدهم «لا أقول إنه أدعى الألوهية لكن كان يظن دائماً أنه متفوق على البشر وليس ثمة قوة بإمكانها إزالة ملكه، والدليل على ذلك أنه حينما سقط نظام زين العابدين بن علي في تونس، وصف القذافي (الزين) بأنه أفضل رئيس وكان يمكن بقاؤه في منصبه مدى الحياة كما قالت الفضائيات، ووقتها ربما لم يدر القذافي كما أشار المختصون أن ما حدث يعبر عن موجة وحالة صحوة ابتدرها الشعب التونسي، وفي طريقها إلى اجتياح معظم الأنظمة العربية، وتحول جديد على مستوى الأفكار والآليات والطموحات تجاوزت فيه الشعوب وهم الزعماء العرب. وقررت إنتاج واقع يشابه تطلعات وطموحات شبابها يترجم في مطلبيات عادلة ممثلة في شطر الحريات والعدالة، وتحطيم حاجز الخوف وإنهاء زمن أسطورة السطوة الأمنية القابضة، وأن حراك هذا الشعب الثائر يجيء استجابة لقدر مكتوب تزامن مع إرادة حرة استفزها طغيان هؤلاء الحكام وخضوعهم المتكرر لرغبات خارجية على حساب أبناء الوطن والتي أجملها التونسيون في بيت الشاعر أبوالقاسم الشابي (إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر) وربما لم يدرك كذلك أن الشعب الليبي سيكون ثالث المنتفضين في العالم العربي والإسلامي ضد نظامه بعد أن خيل للرجل أنه سيبقى مدى الحياة تحت سيطرة أسرته، لكن بالمقابل على مستوى العام منذ أن أسقط شباب ثورة (25) يناير حسني مبارك في مصر انتاب الناس إحساس قوي مسنود بقراءة دقيقة لمآلات الواقع بأن هذه بداية لسقوط الفراعنة والأباطرة في العالم العربي والإسلامي، لكن حتى هذه اللحظة لم يتوقع أحد أن تتتابع الأحداث في ليبيا بهذه السرعة رغم وجود المبررات الموضوعية التي أدت إلى انهيار الأنظمة في تونس ومصر وتشابه حالات الظلم والقهر والاحتقان التي عادة ما تنتهي بالانفجار بحسب حديث خبراء السياسة، الذين قالوا مثلما تشابهت أسباب الثورات في البلدان العربية، تشابهت كذلك وسائل المعالجة التي حاول فيها الرؤساء مخاطبة الجمهور عبر شاشات الفضائيات، وبشهادة الجميع كانت سبباً في زيادة توتر العلاقة بين هذه الأنظمة وشعوبها وتصاعد حدة الاحتقان التي أدت إلى ارتفاع سقف المطالب حتى وصلت إلى «الشعب يريد إسقاط النظام» أما بالنسبة لليبيا فقد دفع (وهم الزعامة) كما أعتقد البعض رئيسها إلى ارتكاب مجزرة بشرية لم تعرفها التظاهرات الشعبية من قبل كانت كفيلة بتشييع صلة العلاقة بين سلطته وشعبه إلى مثواها الأخير والدليل على ذلك اشتداد حدة المواجهة كلما سقط شهيد، كذلك من مقدمات الهزيمة الواضحة كما قيل استعانة القذافي بمجموعة أجانب بعضهم أفارقة، كما أكدت الصور، لقتل وإبادة شعبه، الأمر الذي دعا بعض أعوانه وقادة أمنه إلى الانحياز لشعبهم وبما يملكون من سلاح، وأصبح السلاح في مواجهة السلاح. من ناحية أخرى كان الخطاب الرئاسي الذي تلاه على الناس ابن القذافي سيف الإسلام وهو لا يمتلك صفة رسمية في حكومة والده، أو هكذا قال أحد المهتمين، إلا إذا كان المرشح القادم لوراثة حكم أبيه، يحكي عن بداية الانهيار حيث اعترف خلاله بهزيمة النظام عندما دعا إلى الحوار الوطني، وفي الوقت نفسه لفت الانتباه إلى حالة عدم النضج السياسي وأثبت أن القذافي وابنه ما زالا يراهنان على التشبث بوهم (الزعامة) رغم ما شهدته الساحة من متغيرات لأن السلاح الذي طرحه الخطاب حال عدم اقتناعهما بالحوار لم يعد مجدياً لشباب وشعب قدم حتى الآن ما يقارب (300) قتيل حسب ما ذكر وفق احصائيات غير رسمية. رغم ذلك دعونا نسأل هل كان يتوقع الناس تسارع الأحداث في ليبيا بهذه الطريقة؟ ولماذا لجأ النظام إلى الخيار العسكري في مواجهة شعبه؟ د. إبراهيم ميرغني المحلل المعروف قال ل«الأهرام اليوم» حينما طرحنا عليه السؤال عبر الهاتف «ما حدث كان متوقعاً من نظام شمولي لا يحترم الرأي الآخر ويقوم على وهم الجماهيرية العظمى التي عملت على تغييب الإرادة الشعبية حسب تعبيره، وأنه ملك ملوك أفريقيا. وتساءل ما هي قدرات القذافي؟ فالمعروف عنه أن تسبب في تقسيم ليبيا إلى قبليات وعندما ثار عليه الشعب تعامل بدكتاتورية لم تستوعب المتغيرات التي اجتاحت العالم ووصف حديثه عن أن ما يدور في ليبيا بأنه مؤامرة بالبائس وأكد أن خطابه يعبر عن حالة صدمة أصابت الزعيم وابنه، وقال هذا مصير عملاء الاستعمار الذين لم يدركوا أن شعوبهم انتفضت من أجل التحرر والتغيير. وفي السياق أشار د. حسن الساعوري إلى أن فلسفة النظام الليبي تقوم على الفوضى حيث يضع السلطة في يد أنصاره لينفذوا ما يريدون حتى لو بقوة السلاح، والآن ما يدور من معارك هي بين الشعب وأنصاره الذين لجأوا إلى استخدام قوة السلاح بدلاً عن الوسائل الأخرى التي تستخدم في مثل هكذا مظاهرات والآن يبدو أن أنصاره المعتادين هزموا لذلك اعتمد على الفيلق الثوري الأفريقي الذي يضم معهده عدداً من الأفارقة والعرب المؤيدين لسياسات القذافي ويتلقون تدريباً في ليبيا للقيام بثورة في بلدانها حسب ما ذكر، وهؤلاء الآن يتصدون لثورة الشعب في ليبيا. وأضاف قد يكون هناك عدد من شباب السودان تدربوا في هذا المعهد للقيام بتمرد في بلدهم. وفهم الساعوري خطاب سيف الإسلام في سياق انتهازه للفرصة لمحاورة الثوار حتى يتمكن من نقل السلطة من والده لنفسه وإذا فشل الحوار ستدخل البلاد في حرب أهلية. وأخيراً قد تختلف طريقة المقاومة الشعبية في تغيير النظام، لكن في معظمها ربما تقود إلى نتيجة واحدة هي إسقاط النظام!