في طواف سريع وموجز على الخارطة البرامجية للفضائيات العربية لشهر رمضان المعظم، لوحظت ذات الشواهد التي طرأت على الأعوام الفائتة، وهو سيطرة (الترفيه) على الخارطة، فقد حشدت الفضائيات وعيونها على نافذة (الاعلانات المليونية)، ووضح أن رقعة البرامج الغنائية قد استعدت وجاءت خصماً على البرمجية الخاصة بهذا الشهر الفضيل، فقد ظهرت تعاقدات مالية ضخمة مع نجوم لتقديم برامج ترفيهية لرفع نسب المشاهدة كما تم ترحيل برامج احتفالية راتبة إلى منصة البث الرمضاني، فيما توسعت كاميرا الرصد المهرجاني والاحتفالي في تتبع الحفلات التي تمتد إلى (السحور) في مختلف البلدان العربية، بما فيها السودان.. عكست البرمجة الفضائية للشهر الكريم عجزاً برامجياً في (فقه) استقطاب المشاهدين، فلجأت الفضائيات إلى (ابتزاز) المشاهد عبر الترويج للمساحات الغنائية التي تتخللها -بالطبع- كثافة اعلانية ضخمة، مما كرس حيرة في صناعة برامج رمضان، لان نجاح فقرات الغناء كبورصة (للاستقطاب) ألجأ اقلاماً ومناشدات مناهضي مجمل البرمجة المطروحة الآن على فضائياتنا السودانية، والتي تعتمد الغناء كأساس للجذب الجماهيري. فقبل ظهور الفضائيات في تسعينيات القرن الماضي، كان المشاهدون يحتفلون بالبرامج والندوات والمحاضرات الدينية بالمساجد العامة، مع ما يتخللها من تنزهات ترفيهية، وصلة أرحام، وإكثار من العبادة، ولكن بعد موجة البث الفضائي، تغير المشهد، وتقلصت المساحة التعبدية والاجتماعية، فبعد (تخمة) الافطار تحول (الريموت كنترول) إلى سلطان مشهدي (يختطف) البرامج ذات الوزن الخفيف، التي لا تحتاج إلى ذهن يقظ، ولا برامج تحليلية صعبة التعاطي، فقط هي دقائق تمتد إلى سويعات يغادر فيها المشاهد (الرمضاني) مرحلة اليقظة المعرفية إلى (البلادة البصرية) في واقع البحث عبر البرامج الغنائية. هجوم عنيف في السودان، شهدنا قبل فترة مناشدات مطلبية كبرى في ايقاف المد الغنائي في الفضائيات السودانية، وحينها رفعت هيئة علماء السودان مذكرة مطلبية إلى رئيس الجمهورية تتضمن حزمة من المطالب بضرورة اجراء مراجعات واصلاحات كان أبرزها انتقاد الفضائيات السودانية في تخصيصها البرامج الغنائية والترفيهية خصماً على الدينية والروحية بالشهر الفضيل، داعين إلى زيادة الرقعة الزمنية للبرامج الدينية. هذه الدعوة، أفضت إلى جدل كثيف ومغالطات ومطالبات معاكسة، كان أبرزها أن عدداً من الفنانين السودانيين انتقدوا نص المذكرة، فقد شن حينها الفنان محمد ميرغني هجوماً عنيفاً على الهيئة بسبب المذكرة، ودعاها إلى وجوب توفير مطالب حقيقية للشعب السوداني والمواطن المغلوب على أمره وفق ترك المساحة والحرية له فيما يشاهد، وناصره في هذا المنحى المطرب صلاح بن البادية واصفاً المذكرة بأنها (قصيرة الفهم) مشيراً إلى أن فحوى المذكرة لا معنى له. دعوة معيبة وعلى ذات السياق أشار عصام الترابي نجل الشيخ حسن الترابي بأن محاربة الغناء في السودان عبر المذكرة، تعد محاولة يائسة تتكرر كل عام مع اقتراب الشهر الفضيل، وإنها -والحديث لعصام- لم ولن تنجح، واصفاً اياها بالارهاب الفكري.. هذا الحديث أثار استغراب شريحة واسعة في كونه صادراً من نجل الترابي تحديداً.. ناصر هذه الدعوة الأستاذ محمد عبد القادر نائب رئيس تحرير (الرأي العام) حين صدرت اشاعات بوقف البرنامج الغنائي الأشهر (أغاني وأغاني) الذي تبثه قناة النيل الأزرق، بأنها دعوة معيبة. وفي الجانب الآخر كتب الزميل طارق شريف: فضائياتنا السودانية تلجأ لزيادة حركة البرامج الغنائية دون مرعاة لخصوصية هذا الشهر العظيم، وكذلك تحدث الداعية الاسلامي الكبير الشيخ عبد الجليل النذير الكاروري بوضع حد للجدل الدائر حول مذكرة هيئة علماء السودان في اهتمام الفضائيات السودانية بالبرمجة الغنائية المكثفة في شهر رمضان، واهمالها البرمجة الدينية بقوله: شهر رمضان يعد شهراً للذكر والعبادة، أما الغناء فيكون في العيد. ويرى الكثيرون أن بعض الفضائيات العربية دون السودانية أنها اكثر رصانة وحيوية وأشهرها احتراماً للمشاهدين، وانتقدوا الفضائيات السودانية في كونها تفتقر للبرامج الهادفة وتستعيض عنها بالغناء، واصفين منسوبيها أنهم لا يبذلون جهداً لتقديمها بشكل جاذب.. احترام رمضان هذا السياق العام برفض المساحة الممتدة للفقرات الغنائية بالفضائيات السودانية عبر الشهر الفضيل أدى إلى طرح مبادرات منهجية وتوصيات باصلاح البرمجة، وأشار المراقبون إلى أن الفضائيات العالمية أضحت اليوم تعمل وفق اسلوب علمي لا يقبل بالصدفة البرامجية، عبر تصميم الخارطة وفق المعطى العام دون المزاجية، حتى تحترم جمهورها وقبلها تحترم الموسم التعبدي الفضيل، وألا يسقطوا في فخاخ المعلنين الذين يقتنصون الشهر الفضيل لتسليع بضائعهم عبر حشدها في اعلانات تتخلل الفقرات الأعلى مشاهدة، وهي بالطبع الترفيهية دون منازع، وأن ترفض الفضائيات السودانية هذا المنحى وتشطب من برمجتها عبارة (الجمهور عايز كدا) لتستصحب رسالتها الاعلامية لتحقيق التوازن المطلوب بين التثقيف والترفيه والبرامج الهادفة والتجديد في مساحات البث بما يراعي حرمة الشهر الفضيل.. الراي العام