بسم الله الرحمن الرحيم يبدو ان المعضلة الحقيقية التي ستواجه الولاياتالمتحدةالامريكية، وتاليا بقية دول العالم مع ترامب، ليس خطابه الشعبوي فقط، ولكن الاخطر نيته تنفيذ هذا الخطاب بحذفاره! والذي لا يصدف انه خليط من التلاعب بالالفاظ والشتائم والعزف علي وتر العظمة من جهة، وهموم شريحة محرومة اقتصاديا، وناقمة علي المؤسسة السياسية من جهة مقابلة. وبما انه خطاب شعبوي، اي مشبع بالعواطف وينحو منحي اثارة الغرائز والضرب علي عصب الهواجس والمخاوف، فتاليا هو خطاب مفارق للعقلانية وملحقاتها، من التروي والدراسة والمفاضلة بين البدائل الواقعية، في مقاربتها لاي معضلة، بغض النظر عن طابعها، سياسي اقتصادي اجتماعي. اما المعضلة الاكبر والمرشحة للمفاقمة والالتباس، فيبدو انها من نصيب البيروقراطية الامريكية، في كيفية تنزيِّل المراسيم الرئاسية علي ارض الواقع، وهي سلفا غير واقعية؟ وهي مراسيم امتطي صهوة جيادها لا يلوي علي شئ الانتهازي ترامب، للإلتفاف علي الكونغرس! فيما يبدو انها بداية النهاية لهذه الثغرة في بنية الدولة التشريعية والدستورية! أي عندما يستنفد ترامب طاقة هذه المرونة الدستورية، من خلال اصدار مراسيم لا حصر لها؟ وما يشير الي ذلك، هذه الهجمة المراسيمية الشرسة، في مستهل ولوجه البيت الابيض! والسؤال ما هو شكل النهاية إذا ما استمرت وتيرتها بهذه الكيفية؟ وهل ستحكم امريكا بالمراسيم الرئاسية، بما يحاكي حالة الطوارئ في الدول الاستبدادية؟! وعموما، الاقل خوف وحذر من رئاسة ترامب، كانوا يراهنون علي اتباعه نهج رجال الاعمال في ادارته للدولة، ولكن اعلانه هذه المراسيم (بناء الجدار الهجرة اوباما كير) وبهذه السرعة، وكأنه يطمئن ناخبيه بانه رجل عمل وليس منظر سياسي، تشير الي عكس ذلك تماما؟ فرجل الاعمال قد يكون اكثر من السياسي، قراءة للواقع وتحديدا للوسائل وحرصا علي المكاسب، قبل ان يقدم علي خطوة غير مأمونة العواقب او معرفة حساب كلفتها من كل النواحي. بعكس مراسيم ترامب، التي يبدو انها مبنية علي قراءة عاطفية، تمتح من شعاراته الانتخابية، وما يحيطها من حرص علي الكسب بغض النظر عن إلزاميتها او واقعيتها؟! بمعني، شعارات ترامب استندت علي تحليل او تقدير خاطئ لمعضلات الدولة الامريكية، خاصة وهو يعلق كل الاخطاء والقصور والمثالب، علي رقبة الهجرة والمسلمين وانفتاح امريكا علي العالم. اي ترامب اختار الطريق الأسهل والاصح ما يتوافق وقدراته، وهو يتبع خطي هتلر وموسوليني وزعماء التطرف والتعصب القومي من كل جنس وصنف، في مقاربته لمعضلات الدولة الامريكية، ذات الطابع المعقد سياسيا واقتصاديا ودولتيا او امبراطوريا كما ورد في نص سابق. والسبب كما سبق الاشارة يرجع لترامب نفسه، أي عدم الزام شخصه بالانكباب علي القراءة وتطوير ملكة النقد والتحليل والانخراط في نقاش ذو طابع علمي وخلفية منهجية، للمشكل والتاريخ الامريكي والعلاقات الدولية..الخ، في فضاء مفتوح وبروح مسؤولة! بمعني آخر، ترامب اصلا غير مؤهل لمقاربة المعضلة الامريكية، بادوات معرفية ووسائل منهجية، وتاليا ما يصدر عنه من قراءة وقرارات، هي في حقيقتها تعبير عن منظور الجهل وإرادة التسلط، وهو ما ينعكس بصورة جلية في طبيعته المتعجرفة وطابعه الاستعجالي واساليبه الهمجية. أي كره ترامب للنخبة (الطبقة السياسية) ليس بوصفها طبقة ادمنت التكرار والاجترار واصابها التكلس، وتاليا تحتاج لمزيد من التجريب والتجديد، ولكن بوصفها منظومة خارج وعي ترامب، وليس في امكانه التواصل معها باي طريقة، لانعدام وسائل التواصل والاتصال او المشتركات ابتداءً. اي ترامب عدو ما يجهل، وهنا مصدر احتقاره لها، وتاليا توافر المخاوف من افعال ترامب (الفالتة من كل عقال او مجرد توقع) وهنا مكمن تشبيهه بهتلر! وبكلمة محددة، الآلية الانتخابية بشكلها الراهن تحتاج لاعادة نظر، اقلاه فيما يخص مؤهلات المرشحين وبرامجهم ووسائل تنفيذها، وفوق ذلك إلزامهم بما يطرحون في حدود صلاحيات متفق عليها، تمنع جنون المنفلتين و تضع حد لتهور الموتورين؟! ولكن ماهي المعضلة الامريكية التي تغيب عن وعي ترامب (المغيب سلفا)، وتاليا يستعيض عنها بخطاب مفلس (هواء حار) يملأ به الفراغ! معضلة امريكا يجسدها تضعضع دولة الرعاية الموروثة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لصالح دولة الليبرالية الاقتصادية المتوحشة، التي راهنت علي زيادة معدلات الاستهلاك كافضل وسيلة لزيادة الانتاج، واكتمال الدورة الاقتصادية، وذلك بغض النظر عن سوء التوزيع او آليات تقليل تكلفة الانتاج؟! اي السعي للربحية وتعظيِّمها، كفيل بعلاج كافة المشاكل، واساسها السيطرة علي الاسواق والمجتمعات. وبما ان هذا التوجه يخدم شريحة (ذات صبغة سياسية مالية) في غاية الصغر، فتاليا كانت نسبة الضرر (علي شرائح وطبقات من الاتساع بمكان) بدرجة يصعب احتمالها او التعايش معها، خصوصا علي المدي الطويل الذي يزداد توحشا من جانب وبؤسا من الجانب الآخر! وبما فيها بالطبع، الشريحة التي انتخبت ترامب ليقيلها من عثرتها؟! والمفارقة ان ترامب بقدر ما هو احد افرازات هكذا وضعية شائهة، والاكثر استفادة من مزاياها (تحيزاتها) إلا أنه من ناحية (وعيوية) الابعد عن تقصي جذورها ومعرفة ميكانزمات عللها، وتاليا يستحيل عليه وضع المعالجات الانجع. بمعني آخر، خطاب ترامب هو خطاب مظاهر او افرازات الازمة، وليس مخاطبة جذور الازمة! والحال كذلك، وقع عبء معالجة الازمة، علي الشرائح الاقل حماية والاكثر تضرر من الازمة ذاتها، ليس داخل الولاياتالمتحدة فحسب، بل الراجح انها خارج الولاياتالمتحدة بصورة مضاعفة، بما ان الولاياتالمتحدة المأزومة هي من يدير العالم. اي المهاجرون ضحايا مرتين، مرة داخل بلدانهم الطاردة، ومرة اخري داخل بلاد العم سام، كحلم يداعب كل من يفكر في الهجرة كمغامرة رومانسية، ليجد نفسه رهن القيود واللفظ من البلاد رغم اهوال الوصول! وهذا غير ان اعداد المهاجرين وغير الشرعيين تحديدا، من القلة بمكان مقارنة باعداد المواطنين من اصول امريكية، إضافة الي انهم يمتهنون مهن يأنف عن امتهانها الامريكان مكتملي الامركة. بمعني، الحد من الهجرة سواء بطريقة شرعية او غيرها، لا يغير من الواقع التعيس الذي ترزح تحته الشرائح التي انتخبت ترامب شيئا! وغير انه يضلل وجهة التحليل الصحيح للازمة كما سبق، إلا انه ينعكس بالضرر علي كثير من اصحاب العمل والمزارع، الذين يعمل لديهم المهاجرون، باجور متدنية ومن غير ضمانات عمل او رعاية؟ اي المهاجرون منتجون بطبعهم وطبيعة ظرفهم، وليسوا كسالي او يتسقطون الاعانات او ينافسون المواطن الامريكي علي سوق العمل الذي يرغبه، اي بما ان سوق عملهم هو سوق هامشي في ثقافة المواطن الامريكي؟! وفي ذات الاتجاه، نسبة الجرائم وتجارة المخدرات للمهاجرين بشكل اساس (تعميما) هو ايضا تقدير خاطئ، لأن الجرائم والمخدرات موجودة قبل المهاجرين والهجرات الكثيفة، وستظل قائمة حتي بعد ذهابهم! والسبب أن هنالك عوامل داخلية ساعدت علي وجودها وازدهارها، والاهم ان واجب حربها واقتلاعها من جذورها او اقلاه مكافحتها والتضييق عليها، هو مسؤولية الدولة عبر تضافر الاجهزة ذات الصلة، وليس منع الهجرات بشكل مطلق (كمن يطلق الرصاص علي المريض بقصد علاجه!) واستطرادا المهاجرون كغرباء او كجانب نفسي، هم الاحرص علي الالتزام بالقانون مخافة العواقب التي تتنزل عليهم وبالا. وذات الشئ يمكن ان يقال عن الارهاب الذي يلصق بدين محدد ومجتمعات اكثر تحديدا، رغم انه ككل ظاهرة انسانية له جذور سياسية واقتصادية واجتماعية وحضارية، ولاحقا دخلت عليه عوامل امبريالية، لعبت الولاياتالمتحدةالامريكية الدور الاكبر في تزكيتها، سواء بايجاد المبررات الحاضنة للارهاب، او بتمليكه الوسائل التي تساعده علي الانتشار والتغلغل في كل المجتمعات والجهات؟! اما الجانب الآخر المهم من المسألة، ان ترامب لن يستطع مواجهة مركب النخب المالية والامنية/العسكرية (بالطبع مع تواطؤ الطبقة السياسية) التي تسببت في ازمات الولاياتالمتحدة المتلاحقة، خصوصا وهي تنهل من ذات الايديولوجية التي انتجت نموذج ترامب، وهذا غير انها لها وسائل ضغطها وآليات حماية مصالحها، وتعبيراتها المواربة عن هذه المصالح! وليس ادل علي ذلك، ان ما يسميه ترامب التوجه للاهتمام بالبنية التحتية الامريكية، هو في محصلته يخدم هذه الراسمالية وبما فيها شركات ترامب، بما يذكر بنموذج ايلا والي الجزيرة وراعي مهرجانات السياحة والتسوق! اي بتبنيه مشاريع تنموية او استثمارية تدور حول ما يملكه من شركات، ومصالح رجال اعمال مقربين او ضمن حاشيته؟! وليس بعيدا ان نسمع عن تضارب المصالح بين منصب ترامب وشركاته العاملة داخل وخارج الولاياتالمتحدة! وهذا في حال لم يضيق علي الاعلام بعد ان يقتدي بالسلطان رجب طيب اردوغان. وهذا بدوره يشير الي ان المشكلة التي ستواجه ترامب ليست ذات طابع داخلي حصريا، حتي يجد لها الحلول السحرية في الانعزالية (او ادعاء الرهبنة السلطوية!) ولكنها علي الارجح اصبحت ذات ابعاد خارجية! ونقصد بذلك الصين، التي استلمت قفاز الليبرالية الاقتصادية المتوحشة، وحولتها الي نسختها الصينية المستأسدة، اي وصلت بها الي منتهاها، وهي تجردها من اي حقوق سياسية او مضامين اجتماعية. بقول آخر، حتي لو بادر ترامب بخياله المريض ووعيه العاطل، الي اخراج كافة المهاجرين وتنقية امريكا عنصريا وثقافيا، لن يقوي علي مواجهة المعضلة الامريكية منفردا، خصوصا بعد ان تشابكت بين الداخل الامريكي وخارجه. والخلاصة، رغم الجعجعة الترامبية واندفاعه للعب دور المهرج الذي يقود قطار دون فرامل ولا حتي قضبان، ستصفوا في الختام الي مجرد تشطُر علي البردعة (المهاجرين والاسلام والصرف الخارجي) ولكنها لن تقوي علي مواجهة حمار (المؤسسات المالية والعسكرية والامنية) او غول (الصين الجامح)، بما هما مدار تصميم وحفظ المعادلات والتوازنات القائمة. ولكن ما لا يُطمئن ان معتوه كهتلر احرق العالم، وليس هنالك ضامن ان شخصا بمواصفات مماثلة، ألا يقود العالم الي حافة الهاوية. اما الحل إذا ما صح اعلاه، فهو حدوث انعطافة كبري تطال منهجية الادارة والبنية الفوقية الحاكمة، نحو اعادة الاعتبار لدولة الرعاية وقيم المواطنة ورعاية حقوق الانسان في كل مكان. مما يعيد للدولة الامريكية رونقها والقها قبل ان يعيد ترميم صورتها الامبريالية الكالحة، ويفتح الطريق امام دول وشعوب العالم للإقتداء بالعم سام، في صورته الجديدة النقية الراقية. والمؤكد في كل الاحوال، ان ترامب بشخصية الغرور ومنهجية العدم، ليس هو البديل المأمول، ولكنها قد تمهد لظهور البديل، خاصة وهي تصل بهذه الايديولوجية الوحشية لنهايتها المنطقية، اي حافة الافلاس والدمار والانهيار. آخر الكلام علي الشعوب المقهورة ان تأخذ مصيرها بيدها، من خلال استبدال ثقافة الهجرة كمخرج سهل رغم عقابيلها الاذلالية ومخاطرها اللاشرعية، الي مواجهة واقعها داخليا، علي اعتباره اقصر الطرق لحياة الاستقرار والامان وحفظ كرامة الانسان، من تصرفات انحطاطية لنماذج موتورة كترامب وجماعات عنصرية كاليمين المتطرف، والذي يزداد تطرفا وانصارا مع مرور الايام وتفاقم الازمات. (واخيرا، غايتو يا استاذ حسن وراق ما جاتك راحة، بعد محنة ايلا في الداخل ظهرت لك كارثة ترامب في الخارج! وعموما يبدو ان هذا قدر المستنيرين في كل زمان مكان، اي عندما يواجهون عصور الظلم والظلام، بعقولهم الراجحة ومشاعرهم النبيلة). ودمتم في رعاية الله. [email protected]