بعد أن كتبت الصحفية شمائل النور مقالها النقدي والتنويري في سالف الأيام، وتدور حلقاته حول تشريح الواقع السوداني والإنحطاط الفكري الذي صاحب ولوج الحركة الإسلامية إلي السلطة وما انتجته مفاهيم الجماعات الإسلاموية من أزمات أدت إلي إنهيار المنظومة الأخلاقية للمجتمعات التي تسيطر عليها فصائل جماعة الأخوان المسلمين، والتي افرزت تقلص وضيق الحريات السياسية والمدنية وضاعت الأوطان بهذا المنوال، فلم تمر ساعات علي نشر المقال إنهال كتاب الجماعة (الأخوانجية) علي شمائل وسائر العلمانيين سبا وتفجرت الصحف ومواقع التواصل الإجتماعي بحملاتهم التشويهية ومنها حملة (سودان بلا علمانية) يقودها د. محمد علي الجزولي. نتابع عن كثب كل ما يدور في الساحة السودانية، وما يخوضه الإسلامويين من حملات يقصد بها منع التنوير والهيمنة علي عقول المواطنيين وفرض وصاية علي الكتاب، وهي حملة منظمة تتصاعد من حين لآخر بالتزامن مع إستمرار السلطة الحاكم في تنفيذ سياسة تقيد الحريات ومصادرة الكتب والصحف وإغلاق مراكز التوعية والتنوير وإعتقال السياسيين والصحفيين والحقوقيين العاملين خارج دوائر الظلام وقد عرضنا يوم أمس مقال شمائل (هوس الفضيلة) مع تعليق مبسط. جدلية تعلمن الدولة السودانية: العلمانية تعني في مضمونها قيام دولة المواطنة بلا تمييز وتعني أيضا إدارة الدولة طبقا للعلوم والمعارف التي أنتجها العقل البشري المجرد، وعندما تطبق العلمانية علي مؤسسات الدولة تكون الحريات متساوية بين جميع أفراد المجتمع وتصل الخدمة المدنية إلي كل المواطنيين وقتها يتم تحرير العقل البشري ليؤدي وظائفه الطبيعية في إنتاج المعرفة دون قيد، فبالعلم والتعلمن تقوم النهضة الإقتصادية ويتطور العالم وتتقدم الأمم. وعلي الدوام نؤكد أن دخول الدين في الشأن السياسي يفسد السياسة ودخول السياسة في شأن الدين يفسد الدين، والفصل بينهما يحفظ لكلاهما وضعه الطبيعي ويضمن لهما مساحات متساوية بيد أنها لا تداخل ولا صراع بين الإثنين. ولكن المتشبثين بالدولة الدينية ورافعي شعار الأسلمة السياسية علي مدار التاريخ كانوا يسعون وراء إبطال مفعول العقول التي تنتج الوعي وتنور المجتمع، ولم تكن الجدلية التي فجرها مقال شمائل هي الأولى في تاريخ الصراع بين دعاة العلمنة والإسلاميين، فقديما نفي الفيلسوف إبن رشد من بلاده بسبب دعوته لإطلاق سراح العقل ليبني مجتمع ودولة بما يتوافق مع أسس ومنطق التطور، فعندما ضاقت به الأحوال ووصل الإستبداد مداه رحل وبعد مرور سنين عرف الناس معنى ما يقوله وهم اليوم يتحدثون بأسف محاربة الفلسفة الروشدلية والتي تدرس في الكثير من الجامعات العالمية. ولنا مثال في محاربة العلماء والمفكرين في دولة السودان التي تجزرت فيها النزاعات بين المدارس الفكرية المختلفة وكثيرا ما كانت نتائجها تحسم اما بالسجن او المنفى او المشنقة، وهذا ما جناه السابقون من امثال المفكر الشيوعي عبدالخالق محجوب، والجمهوري محمود محمد طه، ورائد مشروع السودان الجديد جون قرن دي مبيور، وغيرهم كثر ويصعب حصرهم. إننا الآن نقف أمام واحدة من الكوارث السودانية التي تحتاج لوضعها في إعتبار جميع المثقفين حتي تجد التقيم الصحيح، فمواجهة الداء قبل إستفحاله يسهل التداوي، وإن كان المناخ السياسي والفكري في السودان منذ إستقلال البلاد قد تعرض لموجات من رياح مسمومة سببت للمجتمع (ضيق حاد في التنفس). حرية التعبير حق وليست منة: تعتبر حرية التعبير عن الرأي أيا كان شكله ومضمونه واحدة من الحقوق الأساسية للفرد وسط المجتمع، ولا يحاسب ذو الرأي المخالف للأخر إلا بما ينص عليه القانون، ولكل شخص كامل الحرية في تحليل وتفسير الظواهر التي تنتج في مجتمعا ما حسب منظوره ومعيار تقيمه للوضع المعين في المجتمع المعين، ويكون النقد أيضا حق للآخرين في إطاره الذي يأتي بدلائل وبراهين مختلفة سعيا لإثبات ما هو عكس نظرية الخصم، ولكن هنا في السودان أخذت الحرية مجراها إلي (وادي السراب) وصار النقد نقض والحوار الفكري لا يقود المتحاور إلي نتائج تخدم البشرية بل يقوده إلي مهالك محاوريه فيكون ضحية (الطيش والبطش). ففي عصرنا الحالي وفي بلادنا يصارع الإسلامويين لمواصلة نهج إقصاء الذي ينتقد تاريخهم وسياساتهم ويخفون عيوبهم بضرب معاقل التنوير وسد أفواه المستنيريين بتقيد حرياتهم وكسر أقلامهم كي لا تنقل الحقائق ولا تبصر الناس بما يدور حولهم، وكل هذه الأجواء الملبدة بغيوم الإستبداد تسوقنا إلي التعمق في تحليل وقياس ابعاد النزاع الفكري السوداني بالعودة إلي جزوره التاريخية وتطوراته وما ستفرزه في المستقبل، ثم علينا الخوض في البحث عن حلول تعالج مسألة التشنج الفكري الذي أصاب الإسلامويين وأضحى كارثة إنسانية تضع المجتمع برمته في خطر الإنهيار والتحول إلي الجمود ويليه الجفاف المعرفي. علينا أن نعترف بضرورة تأسيس دولة الحرية وهي لا تقوم وأساسها حش، وفي طور تكوين وبناء الدولة الحرة توكل مهام التخطيط لذوي الأقلام القادرة علي إنتاج المعرفة، ووضع الساس السياسي والفكري لإحداث التغيير والتحرر الجزري، ويتطلب ذلك وجود شخصيات ناضجة ذات إرادة حرة وتستطيع القيام بالتنوير وتشكيل الوعي الجماهيري حول مختلف القضايا التي يستوجب البت فيها بشفافية. فما قامت به شمائل وغيرها من مثقفي السودان هو كشف الستار عن حقيقة إنشغال الإسلاميين بتأديب المجتمع عن هواهم مستخدمين سياط قوانينهم لحماية سلطتهم القائمة، وفي ذات الوقت يتجاهلون حياة المواطن في صحته وتعليمه وتثقيفه ليلحق ركب العالم الذي ترجل عن التخندق الفكري وصار علي خط العلم في مسار متزن ووصل إلي ققم النجاح، فالجمود الفكري وتغيب الجماهير عن الحقيقة والفتك بحبائل الحريات جزء من أسباب توقف النهضة السودانية طوال فترة الحكم الإنقاذي الإسلاموعسكري، وبالطبع حفاظهم علي هذا الوضع يصب في إطار تواصل قبضتهم علي السلطة والهيمنة علي العقل الجمعي بما لا يؤدي إلي ثورة نورانية تقوم باعادة تشكيل السودان ومحو آثار التخلف السائد بموجب سياسات أنداد الفكر، فلا يجدون في البلاد من يسمع خطبهم ولا من يهتف وراء شعار (او تراق كل الدماء) فهم يعلمون جيدا هذه الحقائق ما يجعلهم الآن في وضعية إستنفار جماعي لمحاربة العلمانية، وليس غريبا أن تحارب العلمانية بهذا الشكل الصارخ، فقد أخبرنا التاريخ بالحرب التي خاضها البعض ضد مفهوم الديمقراطية ومن ضمن شعارات الماضي (الديمقراطية كفرا مبين وطعنا في الدين)، وعندما تأكد لرافعي هذا الشعار عدم جدوى شعارهم (منتهي الصلاحية) عم الصمت منابرهم فانسحبوا خاسرين، والآن بذات الطريقة القديمة يشعلون الحرب ضد العلمانية والأراء الحرة، وسيأتي يوم صمتهم وإنسحابهم، عندما ينتفض الشعب ويحقق ثورت العلم والمعرفة ويتجاوز عهود الدكتاتورية ويبني دولة ديمقراطية تكون المواطنة فيها للجميع واساسها الحرية. والسودانيين قادرين علي تقيم الجدلية القائمة بوعي، وقادرين علي المضي نحو المستقبل بثبات، وقادرين علي حماية مثقفي السودان. [email protected]