تبيدي: التعامل التجاري كان يتم بالفيزا كارت والأمريكان أكسبريس كافتريا أتنيه من أرقى المأكولات إلى الساندوتشات الخرطوم: تجاني هارون شداد في عقدي السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي كان شارع الجمهورية بوسط العاصمة الخرطوم يماثل في حركتة التجارية والبشرية أكبر الشوارع التي اشتهرت عالمياً، فقد كان مزاراً سياحياً، وعامل جذب اقتصادي للمواطنين والأجانب لما كانت تعرضه متاجره من أرقى أنواع الأزياء والأحذية العالمية والعطور، علاوة على أن الكافتريات الراقية والفنادق والمكتبات كانت ملتقى للأدباء والشعراء والرياضيين ورجال المال والأعمال.. الواقع على الأرض يؤكد عدم وجود رابط بينه والماضي، ليبرز السؤال، لماذا لم يعد شارع الجمهورية جاذباً مثلما كان في الماضي؟ تغيير واضح إذا جلست إلى من عاصروا تلك الفترة الزاهية من عمر شارع الجمهورية وطلبت منهم أن يرسموا لك كيف كان المشهد فإنهم يصمتون برهة وتتبدل ملامحهم تماماً، ويطلقون هواءً من صدورهم يعبر عن حسرتهم على ما بات عليه الشارع الشهير الذي كان يحمل فيما مضى اسم شارع السردار وهو قائد عام للجيش المصري السوداني قتل في مصر. العم حسن الذي عاصر السوق كما يقول في أزهى فتراته يستدعي جزءاً من الماضي، ويلفت إلى أن سوق الجمهورية كان أحد أجمل وأرقى الشوارع في القارة الأفريقية لما كان يمتاز به من تنظيم ونظافة وعرض لأحدث المنتجات العالمية خاصة الأوربية في الملبوسات والأحذية والعطور والسلع الغذائية، ويشير إلى أن الشارع اكتسب سمعته من وجود عدد مقدر من المكتبات التي كانت تجذب المثقفين حينما كانت بيروت تكتب والقاهرة تطبع والخرطوم تقرأ، علاوة على وجود كافتريات على درجة عالية من الرقي والحداثة، وأضاف: ذلك كان زمنا جميلاً لا يمكن أن أصفه لأنه لا يمكن أن يتكرر، فقد كان كل شيء له طعم ونكهة في شارع الجمهورية الذي كان يمثل قلب الخرطوم النابض سياسياً وثقافياً وتجاريًا ورياضياً، أما الواقع الآن فيصفه العم حسن بالبائس حيث أغلقت الكثير من المحال أبوابها أو غيرت نوع تجارتها فيما هجره الكثيرون، وبات متسخاً وغير جاذب مثلما كان في الماضي. ملامح من الماضي ونحن نتجول في هذا الشارع التاريخي حاولنا الالتقاء بتجار عاصروا فترته التي يصفونها بالزاهية، وهنا يشير رجل الأعمال عمر محمد سليمان صاحب أشهر مقهى وكافتريا في شارع الجمهورية وهي كافتيريا "أتنيه" التي يعود تاريخ تأسيسها إلى العام 1978م ، ويقول: طوال هذه الفترة ظل المقهى يقدم أرقى وأجود الخدمات لرواده وإن المحل يفتح أبوابه عند الساعة الثامنة والنصف صباحاً حتى الساعة الواحدة والنصف ظهراً ثم يعاود العمل من الساعة الخامسة مساء إلى الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل، وقال إن المحل أساساً بدأ العمل في الخمسينات بواسطة أحد الأغاريق يسمى جورج ثم آل إلى السوداني محمد سليمان محمد في السبعينات، وكان به 33 طاولة و7 جرسونات، كما كان هناك 4 عمال للعصائر و10 عمال للمطبخ، وكان الرغيف من أجود الأنواع حيث يتم استجلابه من المخبز الشهير "بابا كوستا" وبكميات كبيرة مما يدل على كثرة الرواد وجودة الخدمات، سألناه عن أبرز رواد المقهي فقال إنهم كانوا من كافة فئات المجتمع خاصة المشاهير كما كانت القوة الشرائية أعلى ما تكون. هبوط اضطراري سألنا عمر محمد سليمان عن واقع الكافتريا، فأشار إلى أنه تبدل بداعي الأوضاع الاقتصادية وارتفاع أسعار السكر واللحوم والأسماك وكل متطلبات المحل، وأضاف: ما عاد الرواد والزبائن كما كانوا بل أصبح معظم الناس يشترون ساندويتشات "الطعمية" نسبة لضيق ذات اليد وأصبح المحل يغلق أبوابه بعد المغرب بعد أن كان يعمل حتى منتصف الليل، وقال متحسراً على ماضٍ مضى لحاله دون أن يلتفت إلى ما آل إليه الحال، وتمنى من الله أن تتحسن الأوضاع ويتعافى الاقتصاد السوداني يعود شارع الجمهورية كما كان الذي رأى أنه هبط اضطرارياً بداعي الظروف الاقتصادية. جوهرة السوق العربي أما بصاحب محل أعمال تبيدي التجارية، المهندس عبد الغفار حسن تبيدي ، الذي يتخصص محله في بيع الأناتيك وأعمال الفضة يدوية الصنع وسن الفيل، فيشير إلى أن افتتاح المحل كان في العام 1971م بداخل فندق صحارى الشهير الذي كان يرتاده السياح من كافة أنحاء المعمورة او كما قال تبيدي عن فندق صحارى آنذاك "جوهرة السوق الأفرنجي" متحسراً على تلك الأيام النواضر وعلى ماضٍ حيث كان أرقى ما يكون ليحل محله الصمت والوجوم، وأعرب عن أمله في عودة الأمور إلى نصابها، وقال:هل تصدق أن التعامل المالي في تلك الفترة كان يتم عبر "الفيزا كارت" والأمريكان أكسبريس، وكما كانت كل العملات الأجنبية متداولة في التعامل المالي، ومن أشهر الذين زاروا المحل واشتروا الهدايا هو رئيس وزراء بريطانيا في الثمانينات إدوارد هيس وأعجب بالمنتجات الفضية بالذات والمشهورة "بالشقشيشي"، ويكشف (حسن موسى تبيدي) أن رئيس وزراء بريطانيا إدوارد هيس في ذلك الزمن بعد أن وصل إلى بلاده بعث لهم بخطاب شكر على جودة الهدايا التي اشتراها من المحل ولا زال الخطاب موجوداً. ضوابط وانتعاش وفي ذات فندق "صحارى" كشف "محمد نور للبصريات" عن كيفية الاستيراد والضرائب في الماضي، وقال إن الاستيراد كان يتم وفقاً لأسس وضوابط اقتصادية تمتاز بالمرونة والوضوح مما أدى إلى انتعاش السوق، أما عن الضرائب فأوضح أنها كانت منظمة وبأرقى الأساليب الاقتصادية كما كانت مريحة للتاجر والزبون معاً، وأضاف: كان شارع الجمهورية من أجمل وأنظف الشوارع في العاصمة وملتقى لأرقى فئات المجتمع، وتمنى محمد نور أن تبتكر أساليب جديدة وجيدة لممارسة الاستيراد وعملية الضرائب حتى تتحسن الأوضاع التي كادت أن تصل القاع، هذا إذا لم تكن قد وصلت بالفعل. بوكشوب والأيام الجميلة ومن فندق صحارى انتقلت الصيحة إلى صاحب أقدم مكتبة بشارع الجمهورية وهي مكتبة سنترال بوكشوب وهو محمد الأمين مدير وصاحب المكتبة التي تأسست في العام 1945 بواسطة أحد الأجانب، ويقول إنها كانت قرطاسية لبيع الأدوات المكتبية والمدرسية وكتب الأطفال والهدايا، وأضاف: ثم بعد ذلك دخلنا نحن كشركاء لصاحب المكتبة الأصلي في العام 1980م ثم خرج الشريك من الشراكة بعد أن باع لنا نصيبه فآلت المكتبة لنا وحالياً نحن نستأجر المحل الذي يتبع لعمارة الجالية اليونانية بشارع الجمهورية وواصلنا الرحلة بمفردنا حيث ظللنا نقدم للقراء أحدث القصص الإنجليزية وكتباً عن السودان والسير الذاتية لأشهر الشخصيات وفي ذلك الوقت كنا كذلك نقدم أرقى المجلات الاجنبية مثل ال Times وال News week، أما الآن فقد تراجع الوضع كثيراً والأسباب لا تخفى على أحد بالإضافة إلى تغيير مواقع المواصلات من قلب العاصمة إلى الأطراف أدى بلا شك إلى شلل شارع الجمهورية وحرمانه من الجمهور والقوة الشرائية التي كانت تنعش السوق، ويلفت نظر الجهات المسؤولة الى أن شارع الجمهورية يحتضر الآن هذا إذا لم يكن قد انتقل إلى الدار الآخرة كما قال وأضاف: نرجو إنارة الشارع بأسرع ما يمكن تفادياً للظلام الذي أصبح يهدد وجودنا في المحلات بعد صلاة المغرب علماً بأن هناك أعمدة جلبت لإنارة الشارع منذ عدة سنوات وحتى الآن وللأسف لا تعمل والشارع أصبح مرعباً بسبب الظلام. في حضرة بابا كوستا كما واصلت "الصيحة" جولتها في شارع الجمهورية لتدخل لأقدم وأرقى المطاعم والمخابز وهو محل "بابا كوستا" الذي احتلت شهرته مكاناً كبيراً في العاصمة، وتحدث لنا عمر يحيى الفضلي الحائز على ماجستير في إدارة الأعمال من المملكة المتحدة وعاش فترة من الوقت في كل من فرنسا والولايات المتحدةالأمريكية حيث تحدث عن تاريخ بابا كوستا وبداياته التي كانت عن طريق أحد أبناء اليونان وكان ذلك في العام 1955م، وبعد قرارات الرئيس الراحل جعفر نميري والتي كانت تتعلق بالتأميم باع صاحب المحل محله لأحد السودانيين، وقال: أنا الآن مستأجر من المالك الثاني حيث حاولنا إعادة المكان إلى وضعه الطبيعي وذلك بعد الاتصال ببعض الشركات الفرنسية التي تعمل في هذا المجال، كما قمت بترميم المحل وأدخلت فيه مالاً كثيرًا، علماً بأن المكان هو عبارة عن منزل به 4 غرف وصالة والمخبز كان في الجزء الشرقي للمنزل وجزء آخر كان مؤجراً للخطوط الليبية، وكان هذا المخبز يقوم بتوزيع وبيع أجود أنواع المخبوزات في العاصمة ثم أغلق المكان بعد قرارات نميري التأميمية. محاولات مستميتة ويمضي صاحب مخبز بابا كوستا عمر يحيى الفضلي في حديثه ويضيف: الآن نحاول بقدر الإمكان إعادة المكان لمكانته الأولى وأنا أعتقد أن هذه المنطقة من بري وحتى المقرن بالإضافة إلى شارع النيل وما يوجد بها من فنادق، تصلح أن تكون مدينة سياحية وثقافية حيث وجود الفنادق وجزيرة توتي، وفي سبيل ذلك حولت المكان إلى ملتقى ثقافي تقام فيه معارض للفنون التشكيلية والمنتديات الأدبية وتدشين الكتب والاحتفال بالأعياد والمناسبات، وبالتالي أصبح ملتقى ثقافياً يرتاده كثير من المقيمين والطلاب والتجول داخله مجاناً كما ظللنا نقدم الدورات التدريبية في الطبخ الحديث، وفي ذات الوقت ظللت أبذل كل المساعي لإعادة المخبز إلى سيرته الأولى ليقدم أجود أنواع المخبوزات وبهذا الخصوص اتصلت ببعض الشركات الفرنسية المتخصصة في هذا المجال. مجمعات سكنية وعن المطلوب لعودة شارع الجمهورية كما كان يقول عمر يحيى الفضلي: إقامة المجمعات السكنية في هذه المنطقة كالأبراج وشقق التمليك والإيجار لأن هذه المنطقة كانت تعج بالسكان ومن أهم أسباب تراجع شارع الجمهورية هو تفريغ هذه المنطقة من السكان من هنا وحتى الخرطوم 2 -3 ونحن على استعداد للمساهمة بالرؤى والأفكار وكل ما يمكن أن يعيد لشارع الجمهورية الحياة من جديد، وكل الذي نرجوه هو الاهتمام بشارع الجمهورية من قبل الجهات المسؤولة لإعادة هذه البقعة إلى مكانها الذي يليق بها كقلب للعاصمة وبالتالي نتمكن من إضافة المدينة الثقافية لهذا المكان الذي يجب أن ينبض بالحيوية والحركة، وذلك لا يمكن أن يتحقق إلا عبر تخفيض الضرائب وإقامة المجمعات السكنية في هذه المنطقة. أما محمد سليمان موسى مدير أشهر محلات الأقمشة بشارع الجمهورية وهي محلات المسرة للأقمشة الذي تأسس في العام 1975م، ويقول إنه منذ تلك الفترة ظل المحل يقدم لزبائنه أرقى وأجود أنواع الأقمشة وكشف عن أن شارع الجمهورية كان يعمل بنظام الاتجاهين من الناحية المرورية وكانت "صينية" سانت جيمس من أبرز المعالم للشارع وبها مطعم فاخر يقدم أجود الوجبات هذا بالإضافة لصالة للموسيقى في داخل المطعم نفسه، ويضيف: أما بالنسبة لنا في المسرة للأقمشة ظل المحل يقدم لزبائنه أرقى أنواع الأقمشة مثل البوبلين المشجر، وذلك للعنصر النسوي وكذلك الكلرمبلين والتريفيرا، أما بالنسبة للرجال فكان المحل ولا زال يقدم أجود أصواف البدل وترلين على صوف، هذا زيادة على جلاليب البوبلين "استونا" وهو من أجود أنواع البوبلينات في تلك الفترة هذا بالإضافة إلى ما استحدث من أقمشة وكان المحل يعمل حتى الساعة الثامنة والنصف مساء أما الآن فما عاد شارع الجمهورية كما كان، ولا القوة الشرائية هي القوة الشرائية، وبالتالي ليس أمامنا خيار غير أن نغلق أبوابنا قبل المغرب.