عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدكتور النور حمد.. في حوار الفكر والسياسة
نشر في الراكوبة يوم 18 - 02 - 2017

للدكتور النور حمد زاوية جديدة ورؤية غريبة، يطل من خلالها على قضايا الفكر والثقافة. يقرأ د. النور قضايا المجتمع والسياسة في السودان، باحثاً في ينابيع الوعي الجمعي التي تشكلت خلال المسيرة الوئيدة لمجتمعٍ تدافعت نشأته بامتزاج وتصاهر ثقافات الزنج والعرب. يتوقف د. النور طويلاً عند الحقبة السنارية، يتحسس ملامح ومميزات الشخصية السودانوية، وأثر التركية السابقة على النسيج الاجتماعي.. وإلى جانب اسهاماته النظرية في التأطير للهوية، لا يغفل عن الفنون التي يراها أحدى محفزات التنوير. ينطلق د. النور من رؤي جمهورية تتكئ على مفهومية (الحرية لنا ولسوانا)، و مثله مثل كثير من مثقفي السودان، ينزع بعيداً عن الوطن، جائلاً بين جامعات ومعاهد العالم، طارحاً من هناك رؤاه في الاصلاح الديني والاجتماعي، حتى يأتي زمان لم يزل في رحم الغيب، ربما يهيئ له العودة.. وكما تنتظر البشرية وعد المسيح، يجيئ ذاك الزمان لاحقاً، الزمان الذي تفتح فيه الشوارع ذراعيها، لتتسمّع تغريدة الطير المهاجر. في ناحية أخرى من هذه الدنيا الدائرية، أجرينا هذا الحوار مع د. النور حمد عبر الانترنت، فخرجنا منه بالحصيلة التالية:
حوار: زكية الترابي
تتردد في كتاباتك إشارات كثيرة للهوية.. فكيف تُعرِّف الهوية؟
ليس من السهل تعريف الهوية، خاصة محاولة الإتيان بتعريفٍ جامعٍ لها، في جملٍ قليلة. ولكن، مع ذلك، يمكن القول إن الهوية هي ما يربط جماعة ما، في قطر ما، أو مكان ما، برباط الانتماء. وقد كان هذا الرباط قائمًا، حتى حين لم تكن هناك أقطار، بالصورة التي نعرفها اليوم. والروابط التي تشد الفرد إلى هويةٍ ما، تتمثل في التكوين التاريخي، والموروث الثقافي الجمعي، من عقيدة وتقاليد ولغة. إضافةً، إلى السمات النفسية، والوجدانية، والروحانية، وسائر صور المشترك الجمعي، الذي يجعل شخصًا ما، منتميًا، أو منسجمًا، أو واجدًا نفسه، في وسطٍ، أو قبيلٍ ما.
هل الهوية شيء ثابت؟
الهوية ليست صفة ثابتة يمكن إلصاقها بالفرد، أو بالجماعة، مرّةً واحدة، وإلى الأبد. فالهوية يُعاد تعريفها باستمرار.فظهور كشوف جديدة في العلوم الإنسانية، خاصة في التاريخ والأنثروبولوجيا، ربما اقتضت إعادة تعريفها.فالهوية قد تكون حقيقيةً،وقد تكون زائفةً. أيضًا، قد تكون طوعية، وقد تكونمفروضةً فرضًا، من أعلى، بمختلف الأساليب، ومنها القهر الفكري، والتجهيل.
ما علاقة الهوية بما طرحته حول العقل الرعوي؟
علاقة أطروحتي حول العقل الرعوي،بموضوع الهوية، يمكن تلخيصها بالقول إننا بناةٌلأعرق حضارةٍ في العالم،وهو أمرٌ تشهد عليهالآثار الشامخة،الواقفةالآن. فكيف، يا ترى، خرجنا من دائرة الفعل الحضاري، وتحولنا من بناةٍ للحضارة، إلى مجرد مزارعي كفاف، ورعاةٍيهيمون في البرية بحثًا عن الكلأ والماء؟ثم كيف أصبحنا، هامشًا لهويةٍمتخيَّلةٍ، عابرةٍ للأقطار؟باختصار، هناك انقلاب يمثل ردةً في تصورنا لهويتنا. ونحنلم نتأمله، ولم نبحثه بالقدر الكافي.
هل يحدد الدين واللغة الهوية؟
لا ليسا محدديْن حصريين للهوية. فتحدثنا اللغة العربية، واعتناق أكثريتنا للإسلام، لا يجعل منا عربًا، مثلما، لا تجعل اللغة الإنجليزية، أو اعتناق الديانة المسيحية، من الأمريكيين، أو الكنديين، أو الأستراليين، بريطانيين. لقد وطن التصوف السناري الإسلام، أي منحه نكهة سودانية. وقد وطنت أيضًا حقبة سنار اللغة العربية. واللغة العربية، في كل البلدان العربية، لغة كتابة، وليست لغة حياة يومية، وهي بهذا المعنى، لا تعبر حقيقية عن الهوية. علينا ألا ننسى،أن ثقافتنا العربية الإسلامية، هي ثقافة سودانية، ذات طابع كوشي، إفريقي، شارك في صناعتها النوبة، والبجا، والفور،والزغاوة والمساليت، والهوسا، وغيرهم، من الكوشيين الذين تعج بهم أصقاع السودان.
إذن، أين تختلف ثقافتنا العربية من مجمل الثقافة العربية؟
ثقافتنا العربية التي يجعل منها بعضنا عنوانًا لهويتنا،هي بنيةُ وعيٍ يتحكم فيهاخطاب سلطوي عثماني الطابع، معجون بمادة القمع التاريخي، والسيطرة، والاستبداد الديني، الذي استمر لخمسة قرون في المشرق العربي. ما نظنه اليوم ثقافةً عربيةً إسلاميةً تتماهى معها عقول أكثريتنا، بلا فحص، ليست، في حقيقتها، سوى أحبولة قريبة العهد،احتلت بها الخديوية عقولنا، بهدف الاستتباع والإلحاق. وجاء من بعدها المنهج المدرسي المصري، الذي هدف إلى تمصيرنا، وإلحاقنا بمصر، خدمة لمصالحها. ثم جاءت، بعد ذلك، القومية العربية، والأفكار الإسلامية الإخوانية، لتكمل مشروع الإلحاق هذا. فلو نحن انتبهنا قليلا، لوجدنا أن هويتنا الحقيقية، تجلس، بكامل هيئتها، في الثقافة التي تحملها لغتنا العامية، وليس في الفصحى التي زيفت وعي النخب واجتثتهم من جذورهم.
اهتمامك بالتصوف ربما يوحي بأنك لم تغادر محطة دولة الفونج، وطقوس مشايخها، ماذا تقول؟
الصوفي السوداني السناري، لا يمثل دولة الفونج بصورةٍ كلية. فهو قد كان نقيضًا لقيمها. والتصوف، لا يزال قابلاًللتفعيل في حياتنا الحاضرة، ولكن بعد عصرنته وجره إلى دائرة الفعل الثوري السياسي الاجتماعي، على مستوى الجماهير. أيضًا، تصوفنا ليس هو التصوف المشرقي، الاهتيامي، الذي تجده في أشعار ابن الفارض، وعبد الغني النابلسي، أو في عرفان ابن عربي، وغيرهم.كان التصوف في سنار مؤسسة روحيةً اجتماعيةً، سياسيةً، إصلاحية. وهو يشبه بعض سمات التصوف الاجتماعي، في بعض البقاع؛ في المشرق والمغرب، ولكن مع خصوصية سودانية. وقد أشارت إلى بعض خصائص المؤسسة الصوفية السنارية السودانية، الدكتورة، هيذر شاركي، من جامعة بنسلفانيا، في قراءتها، لكتاب،»أولياء النيل الأزرق»،Holymen of the Blue Nile، الذي ألفه نيل ماكهيو. وهي قراءة تفضل بترجمتها مؤخرًا، الصديق، الدكتور، بدر الدين الهاشمي.
ما ملخص ما كتبته هيذر شاركي؟
ترى الدكتورة ،هيذر شاركي، أن التصوف السناري ملأ الفراغ الذي نتج عن اضطراب الأحوال، والتآكل الأخلاقي، والتدهور الشديدالذي أصاب سلطنة سنار، في القرن الثامن عشر. ولذلك، ما يمكن أن نستخلصه من تجربة التصوف السناري، هو نموذج القائد الروحي المشغول بمجتمعه، وليس بنفسه،أوبأقاربه، أو بعشيرته. ولذلك تعلقي بسنار هو تعلق بالروحانية، حين تتحول إلى طاقة ثورية قاعدية، للخدمة الاجتماعية، وللأمن الاجتماعي، وللعدل، وللإصلاح الخلقي والنفسي، وللتكافل، وضمان العيش الكريم للجميع، ومقاومة بطش السلطة وتجاوزاتها.
أليس التصوف السناري شيء من الماضي؟
نعم هو من الماضي، لكنه قابل لإعادة الانتاج، والموضعة، في أفق معرفي، وسياسي جديد. فأنت تبني على ما هو متشكلٌ لديك في الحيز الاجتماعي، ولا تأتي بشيء من الفراغ. لكن، لا بد، في نظري، أن يتأمل من يجلسون على السجادات اليوم، مآثر سلفنا الصالح، بعمق. وأن يحتفظوا بمسافة بينهم وبين السلطة التي أصبحت تغدق عليهم، لتضع جمهورهم تحت قبضتها. فالتصاقهم بالسلطة، على النحو الذي ظل جاريًا منذ التركية، يميت طاقةً كبيرةً من طاقات التغيير، ويكرس للاستبداد، ويؤخر عقارب ساعة النهضة الشاملة.
كيف تصف نفسك؟هل أنت حداثي،أم متدين،أم علماني؟
أظن أنني محصن، دينيًا، ومعرفيًا، ضد اعتناق الرؤية العلمانية للكون وللحياة. فالعلمانية، كرؤية فلسفية، وكنظرة إلى الكون والحياة، ظاهرةٌ صفويةٌ منبتة، حتى في الغرب نفسه. فهي جيب معزول معلق في الهواء، لا علاقة له بوعي، وبحاجات عامة الناس، النفسية، والوجدانية؛ غربيين كانوا أم غير غربيين. أما العلمانية، بمعنى حياد الدولة تجاه مختلف الأديان، وكقاعدة لحق البشر في التشريع، وفي حرية التفكير، وحرية الضمير، وممارسة الديمقراطية، فأنا معها. أما سؤالك ما إذا كنت متدينًا، فأنا متدينٌ، ولكني،لست متدينًا بالمفهوم الشائع عن التدين، ولا أدعو لإقامة دولة دينية. وعمومًا، كل هذه المصطلحات، التي نرددها، صباح مساء، من شاكلة «متدين»، و»إسلامي»، و»صوفي»، و»حداثي»، و»ثوري»، و»ليبرالي»، وغيرها، أصبحت بحاجة إلى أن نحررها مما لحق بها من تلطيخوابتذال.
كيف توفق بين دعوتك للتحديث، واستلهام تصوف سنار؟
الحداثة، أو ما يسميه الأكاديميون الModernist Paradigm، إطار غربي لنمط فكري،يقوم على النظرة المادية للحياة، وعلى الإيمان بالنسبية المطلقة للقيم، وأسوأ ما فيه، أنه يقوم على إطلاق يد الرأسمال. فالحداثة بهذا المعنى تخيفني، ولا أملك ألا أن أقف ضدها. ما يهمني من الحداثة، هو المنجزات العلمية، والتقنية، والمهارات الإدارية، وهيكل النظام السياسي الديمقراطي، والتعددية، وضمان الحريات، وحقوق الإنسان.فأنا مستلهم للتصوف كإطار للأخلاق، وللروحانية، وللمساوة الاجتماعية، وكطاقة اجتماعية قائمة يمكن أن يعاد توظيفها وتوجيهها. وأنا حداثي، بالمعنى الذي أشرت إليه، عاليه؛ أي، وفق منظورٍ نقديٍّتقف وراءه دراية كافية بعلل حقبة الحداثة الغربية.
*مرت عشرات السنين على اغتيال الأستاذ محمود محمد طه....هل مازالت أفكاره مواكبة؟
- النموذج الذي قدمه الأستاذ محمود، لما ينبغي أن يكون عليه المثقف، نموذج نادر جدًا، خاصة في الفضاء العربي الإسلامي.. فقد كان مثقفاً متحرراً تماماً من قبضة السلطة؛ من الخوف منها، والطمع فيها.. وأعتقد أن النموذج العملي الأخلاقي الذي قدمه في حياته، أهم بكثير من أطروحاته، رغم أصالتها وأهميتها، أن تؤمن بفكرة، وأن تعيش في اتساقٍ تامٍّ معها، وأن تموت متمسكاً بها، يمثل في نظري أعلى ما يمكن أن تصل إليه قوة الفكر البشري في مواجهة الاستبداد والجهل، وموته على النحو الذي جرى، مثّل انسجاماً باهراً، لاتساق العقل والجارحة أو قل: اتساق الروح والعقل والجسد، مع بنية الكون، بالاستسلام للإرادة الإلهية القديمة.. فما حققه الأستاذ محمود من انسجام في الفكر والقول والعمل، كان فعلًا بالغ الرفعة، لم يتفق سوى لقلائل في التاريخ الإنساني.
*وماذا عن فكره؟
- من أهم ما قدمه الأستاذ محمود، طرْحه المتعلق بتطوير التشريع والانتقال من فروع القرآن إلى أصوله، وهو طرحٌ لن يجد المسلمون- طال الزمن أم قصر- بداً من اصطحابه، وهم يواجهون تحديات العصر، وقد أخذ كثيرٌ من المسلمين يلتفتون الآن إلى براعة هذا الطرح وأهميته العملية، خاصةً في اندونيسيا، وتونس، والمغرب.. فتفريقه بين أصول وفروع القرآن، يمكن أن يخرجنا كمسلمين من ورطتنا التاريخية، ومن المراوغات اللزجة، التي لا تنفك أكثريتنا تجترحها، لتبرير أحكام لا يمكن الدفاع عنا في عالم اليوم.
*كيف تفسر غربة الجمهوريين بعد رحيل الأستاذ؟
- تجيء الغربة- وأعني بها هنا التقوقع- حين تتقدم العقيدة الدينية على النظر الموضوعي للأمور، فصاحب العقيدة الدينية الذي لا يمارس التفكير النقدي، ويظل على عقيدته المصمتة، ينتهي تلقائياً إلى التقوقع والعيش في جيبٍ صغيرٍ منعزلاً.. ومردداً المقولات ذاتها باستمرار، دون النظر إلى حراك الواقع وتغيراته، التي تجعل الشخص مشغولاً بإثبات صحة النص، أكثر مما هو مشغول بالتفكير، وابتداع الحلول، استجابةً لتغيُّرات الواقع وحاجته، فبعض الجمهوريين تحولوا إلى فقهاء نصوصيين، معيدين تجربة نشوء الفقه الإسلامي السلطوي المدرسي. وبطبيعة الحال لا ينطبق هذا التوصيف على سائر الجمهوريين، ولكنه ينطبق- فيما لمست- على كثيرين منهم.
*هل أنت مع إصلاح هذا النظام أم تدعو الى تغييره ولماذا؟
- أنا مع تغيير النظام، لأنه نظامٌ عاطبٌ، لكنني مع تغييره سلمياً، عن طريق الحراك السياسي الوئيد الضاغط من الداخل، والخارج في آنٍ واحد.. وبطبيعة الحال يقتضي هذا وجود قيادات مدركة وفاعلة وذات مصداقية، لكن هذه القيادات غير متوفرة الآن.. لذا على الجمهور وخاصة فئة الشباب- أصحاب المصلحة الأوائل- في ما يجب أن يكون عليه مستقبل البلاد، أن يعملوا في وجهة الضغط، وأن يحتفظوا بمسافة كافية بينهم وبين القوى التي تقدم نفسها- الآن- كمعارضة، فعسى ولعل أن تتضافر مختلف الضغوط، ومختلف المستجدات غير المنظورة، التي تضطر النظام إلى أن يتغير من داخله، وبصورة تدريجية هادئة، لا تحدث ارتباكًا، ولا فوضى، ولا انتكاسات فادحة، تنسف بنية الدولة.
*متي العودة الى السودان؟ أعني بذلك العودة لمعافرة الحياة والظهور في الشوارع بضجيجها وغبارها؟
- لست أدري حقيقةً متى سأعود لأستقر في السودان.. وعموماً لم يبق من العمر، إلا أقله، نعم، أحن إلى العودة، (حنين الفرود)- كما غنى الكابلي- ولكنني أخشاها في نفس الوقت، أخشى الوقوع في (أحابيل الحنين الخادعة)، التي وصفها ماركيز في روايته (الحب في زمن الكوليرا)؛ أي أن تعود وتكتشف أنك اتخذت قراراً خطأ، لدي مشاريع كتابية تأخرت كثيراً، أود انجازها، وقد أصبحت بخصوصها، في سباقٍ محموم مع الزمن. وعموماً، فالحياة في الخارج تحفز الفكر، وتعين على البحث، وعلى الكتابة، وأتمنى من كل قلبي أن يأتي وقتٌ قريبٌ جداً، لا يجد فيه السودانيون أنفسهم مضطرين (للمعافرة)، وللصراع اليومي مع سائر خشونات البيئة، ومصاعب الحياة اليومية، ورهقها، الذي لا ينفك يزداد.
* ألا ترى أن جيلكم قد تعرض لمؤامرة كبرى؟ إذ شردته السلطة واحتضنه الغرب البعيد... والنتيجة واحدة، هي إخلاء الساحة للسلفيين؟
- جيلنا ليس كتلة صماء واحدة، فبعضٌ ممن كانوا زملاء لنا في المدارس، أصبحوا مسؤولين حكوميين ضمن سلطة الإنقاذ، وبعضهم لا يزال في السلطة، حتى الآن. ليس هناك مؤامرة بهذا المعنى، فطرد السودانيين لبعضهم شأن متكرر.. فقد حدث في أكتوبر، وفي بدايات مايو، تحت شعار (التطهير)، وأعاده الإسلاميون، تحت شعار (التمكين).. والآن لا مجال للبكاء على اللبن المسكوب، إذ لم يعد في وسع من قاموا بالإقصاء أو الذين جرى إقصاؤهم، جر عقارب الساعة إلى الوراء، إلا في أطر بالغة الضيق.
أما مكافحة السلفيين فهي ليست واجباً منوطاً حصرياً، بالجمهوريين الذين واجهوا العقل السلفي، في السبعينيات والثمانينيات في جامعة الخرطوم.. فمناهضة السلفية واجب جميع السودانيين، والمحزن أننا حين بدأنا نتخلص من سلفية الإخوان المسلمين، تمددت في سوحنا السلفية الوهابية، وربيبتها السلفية الجهادية، التي علا صوتها مؤخراً؛ بسبب موازنات سياسية.. وعموماً، لا تمثل السلفية حتى الآن سوى ظاهرة صوتية، وأتمنى ألا تتعدى هذا الطور.. وعموماً، إذا لم ينهض الواقع بأجمعه، في وجه السلفية، والسلفية الجهادية، ورضي أن يحني هامته لهما، وينقاد لجهالتهما، وجلافتهما، وعنفهما، فهو إذن قد أنبتَّ من جذوره، وأصبح ريشة في مهب الريح، وأصبح المجال من ثم ملكهم المستحق.. ويبدو أننا في السودان نتعلم عن طريق التجارب المريرة، بأكثر مما نتعلم عن طريق الحكمة، والرؤية الثاقبة، ولغة الخطاب العالمة المدركة.
*من أين يأتي الحظر على السودان؟
- من أهله لا من غيرهم، وخاصة نخبه السياسية؛ الحاكم منها الآن، والمتطلع منهم إلى الحكم.
* لديكم إنتاج معرفي غزير لكن الناس لا يقرأون.. كيف ترون نبض الناس ومزاجهم العام؟
- حقيقةً، ليس لديَّ انتاجٌ معرفيٌّ غزير، فأنا لم أكتب سوى بضعة كتب، لكن لدي مقالات كثيرة في الصحف والمواقع الإلكترونية، كما لديّ، أيضاً، أوراقٌ علمية منشورة في عديد الدوريات، همي الآن أن أضع أفكاري التي تبعثرت في عشرات المقالات في كتب، وهذا ما أنا عاكفٌ عليه الآن.. أما القراءة فأعتقد أنها متراجعة في جميع أنحاء العالم، لكننا في السودان- في ما أحسب- من أقل الشعوب قراءة.. وعموماً، لا تجد الأطروحات الأكاديمية أو الفكرية، اهتماماً، إلا في أوساط الصفوة.. كما أن الحياة الضاغطة، والظروف الحياتية، غير المواتية، لا تساعد على القراءة، لكن فتح وسائط التواصل الاجتماعي منافذ جديدة للقراءة وإلى تبادل
الخبر والرأي، والفكرة؛ كتابةً وصوتاً وصورةً، بصورةٍ آنية.. هذا فتحٌ جديدٌ له ما بعده.
*ألا ترى أن هناك قطيعة بين المثقف والمجتمع من جهة والسلطة من جهة أخرى؟
- نعم هناك قطيعة بين المثقف والمجتمع، في كل المجتمعات تقريباً.. هذه القطيعة هي التي أتت على سبيل المثال، بدونالد ترامب إلى سدة الرئاسة، في أمريكا، وربما تكون هي ذاتها التي أتت بهتلر من قبل إلى السلطة في ألمانيا. حيث تعاني النخب في كل بلدان العالم من فوقيةٍ، من نوع ما، والتحدي الذي يواجه عالم السياسة في زمننا الراهن، هو ردم الهوة بين المثقف والجمهور، لهذا السبب ظللت أعتقد أن الشيخ السوداني المتصوف، إذا عرف ما كان عليه التصوف السناري، وعرف كيف يفعِّل دوره في إطار العصر، لأسهم في تجسير الهوة بين المثقف والجمهور، ولربما جاء الوقت لكي يقترب المثقفون من بيوت التصوف، ويعملوا عن كثب، مع الشيوخ، لتفجير طاقات المجتمع للبناء والنهوض من القواعد.
* ماذا ترى في قرارات الرئيس ترامب الأخيرة في حظر دخول السودانيين إلى الولايات المتحدة؟
- هذه قرارات لا معنى لها، ولا تخدم لا من قريب ولا من بعيد، الغرض الذي من أجله صدرت، وهو منع دخول إرهابيين إلى أمريكا، وقد تمكن الإعلام الأمريكي من فضح مسبباتها، وأبان أن الدول السبع المعنية، لم يحدث من مواطنيها فعل إرهابي، كما قاومها المجتمع المدني وتظاهر ضدها بقوة، وحين جاء دور القضاء وقف ضدها.. وهنا تكمن عظمة الديمقراطية وعظمة مبدأ فصل السلطات. وقد يعود ترامب لإعادة إصدار أمر جديد، ولكن المقاومة ستستمر، ويبدو أنها ستكون معركة طويلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.