تشكل العاطفة، حباً أو كرهاً أو فتوراً، أحد عوامل التقارب والتباعد بين الشعوب والدول، إلا أنها لا تتغلب على المصالح في تحديد مسار العلاقة، فالأخيرة أقوى أثراً بما لا يقارن، ظلت العاطفة العامل المشترك والدافع الموحد للجنوبيين في صراعهم مع الشمال، تدفعهم مشاعر غاضبة بسبب مظالم أو سياسات خاطئة، ولم يفطن الجنوبيون إلى عوامل أخرى قد تجمعهم مع الشمال، ولا إلى ضرورة وجود عوامل لا غنى عنها في بناء كيانهم البديل للشمال، فغفلوا عن الاستعداد لمسئوليات جسام تنتظرهم عند الاستقلال، فبدا لهم أن التخلص من الشمال كاف لتحقيق الآمال في دولتهم المستقلة. بعد أن أصبح (حل الدولتين) واقعاً، سقطت تلقائيا العاطفة في المشهد الجنوبي، إذ غاب العامل الذي كان يؤجج المشاعر، وواجه الجنوبيون الواقع الصعب الذي يحتم عليهم بناء الدولة الذي هو أصعب بكثير عن الثورة في وجه الظلم، ففشلت الدولة الوليدة، بل تحول حلم الاستقلال إلى كابوس بعد أن وجد الجنوبيون أنفسهم بين قطبي رحى الحرب والمجاعة. مع تراجع الأسباب المؤججة للعواطف وفشل الخيار البديل، يكون الجنوب أكثر تهيؤا لقبول فكرة تبادل المصالح مع الشمال. ولا يعني ذلك أن محبة مفاجئة قد ظللت العلاقة، لكن المصالح الضرورية تفرض ذاتها واقعاً لا ينكر، كما أن المحبة ليست من شروط السياسة. وبما أن المصالح شأن مشترك يكون الشمال معنياً هو الآخر بالبحث في صيغة تحقق أكبر المكاسب، يعينه التقدم النسبي لتقديم رؤية تناسب قدراته التي تؤهله للعب الدور الأكبر. من أهم الملاحظات ذات الصلة بمصالح الطرفين الوضع الديمغرافي في الجنوب، حيث الكثافة السكانية المنخفضة، إذ يقل عدد السكان عن 8 مليون نسمة في بلد تبلغ مساحته حوالي ثلاثمائة ألف ميل مربع، وتحيط به من الجنوب دولتان بكثافة سكانية عالية هما الكونغو وأوغندا، بهذا الوضع فإن الدولتين مرشحتان لملء الفراغ الديمغرافي في جنوب السودان، إذا لم يسارع السودان لملء الفراغ مستعيناً بتأثيره الأقوى وموظفاً لطول حدوده المأهولة من جهة الشمال. يمكن للسودان أن يدير عملية تبادل سكاني، تحدث على مدى ليس بالبعيد نقلة ديمغرافية تمهد لواقع اجتماعي ثم سياسي جديدين. وذلك بتشجيع الهجرات الجنوبية للسودان والترحيب بالعمالة الجنوبية في ميادين عرفوا بالمهارة فيها قبل الانفصال، على أن تدفع حكومة الشمال، بالتنسيق مع حكومة جنوب السودان، المستثمرين في التجارة والزراعة والبناء والصناعة والنقل، يصحب هذا النشاط الهائل هجرات كبيرة تحدث تحولاً سكانياً ملحوظاً يمهد لتداخل وتمازج حال دونه في السابق الحاجز العاطفي الذي زال بتفريغ شحنة الغبن بعد معايشة الجنوبيين لتجربة إدارة الدولة.; العرب