مقدمة: حرصت عندما توليت رئاسة سفارتنا بلندن عام 2000 م على التعرف على المؤسسات الثقافية البريطانية ومنها المتحف البريطاني The British Museum وهو أغنى المتاحف بالمقتنيات الآثارية وخاصة من المستعمرات البريطانية السابقة في آسيا وإفريقيا . استقبلني مرحباً نيل ماكريقر مدير المتحف ورافقني مطوفاً حول أرجائه مساعده فيفيان ديفز مسؤول رواق الآثار المصرية السودانية ويسمونه رواق " المصريات "Egyptology ! خطر لي للوهلة الأولى عند بداية الطواف السؤال: لماذا لا يكون للسودان جناح مستقل ورواق منفصل عن الرواق المصري مثل بقية الأجنحة والأروقة للدول الإفريقية والآسيوية مثل كينيا ونيجيريا ويوغندا وجنوب إفريقيا وماليزيا وإندونيسيا . قلت لمرافقي المطوف أن للسودان حضارات قديمة وكنوز معرفية عريقة أصيلة ومستقلة بل سابقة لحضارات مصر الفرعونية وأخرى معاصرة لها. وهنا عادت بي الذاكرة إلى أول عهدي بالدراسة الأكاديمية المتخصصة في التأريخ عندما تعلمت وعلمت لأول مرة عن أصل الحضارات السودانية القديمة: كرمة وكوش ومروي وذلك على يدي أستاذي البريطاني عالم الآثار والتأريخ القديم براين هيكوك Brian Haycock عامي 1963-1964 بجامعة الخرطوم وكنا ثلة من طلاب الامتياز بقسم التأريخ . الأستاذ هيكوك من رواد المدرسة التأريخية الآثارية القائلة بأن للسودان حضارات قديمة أصيلة نبعت وتطورت محلياً في شمال السودان القديم (بلاد النوبة الوسطى والجنوبية) سابقة ومستقلة عن الحضارات الفرعونية في مصر ولا ينتقص من هذا السبق والاستقلال علاقات الجوار وتبادل المنافع التجارية والمؤثرات الثقافية كما هو الحال في سائر الحضارات القديمة والحديثة والمعاصرة بفعل الجوار الجغرافي والتواصل والتلاقح . علمنا الأستاذ هيكوك(الذي عاش وعمل في جامعة الخرطوم في الستينات ومات ودفن في مقبرة الكومونولث في الخرطوم إثر حادث حركة مفجع في شارع النيل)علمنا عن الحضارة المروية وأصالتها وتميزها في إفريقيا ما لم نك نعلم وعن ريادتها للتعدين وصناعة الحديد(بيرمنجهام إفريقيا كما وصفها بعض الكتاب) وعن لغتها المكتوبة – اللغة المروية. ودأب المتخصصون في تأريخ تلك الفترة وإلى يومنا هذا السعي لتفكيك رموزها وحروفها التصاويرية.. و يلزم أن نشير هنا إلى مساهمات الآثاريين السودانيين في استجلاء مكنونات الفترة المروية ومنهم الأساتذة نجم الدين محمد شريف وأحمد علي حاكم وعبد القادر محمود ومن تبعهم بالبحث والتنقيب والحذق من تلاميذهم الأذكياء وهم كثر . جال كل هذا بخاطري ومن وحي ذاكرتي عن أستاذي هيكوك وأنا أتجول مع مرافقي ألقي النظرات السريعة على مقتنيات "رواق المصريات" فقال لي أن المتحف البريطاني قرر إقامة معرض للحضارات السودانية القديمة عام 2004 م يعلن خلاله نقل الآثار السودانية من جناح "المصريات" إلى جناح منفصل للسودان وتدشين رواق مستقل تحت مسمى "سودانيات "Sudanology . و بالفعل تم افتتاح المعرض يوم الثلاثاء 7 سبتمبر 2004 م بعد الاستعانة والتعاون مع الهيئة القومية السودانية للآثار والمتاحف وقد صدر بمناسبة المعرض كتاب ضم بين غلافيه عشرات البحوث والمقالات والتصاوير عن حضارات السودان القديمة تؤكد أصالتها وسبقها. والكتاب في الواقع موسوعة صغيرة من نحو 350 صفحة عنوانه: كنوز السودان القديمة : Sudan Ancient Treasures استجلى كتّاب هذه الموسوعة أصالة الحضارات السودانية ونفوا عنها التبعية والاستنساخ من حضارة مصر الفرعونية ومن هؤلاء الأكاديميين المرموقين من غير السودانيين الإنجليزي بيتر شيني عن مروي والسويسري شارلس بونيه عن كرمة و دريك ويلسبي عن الآثار السودانية والتأريخ القديم والألماني ديترخ فيلدونق عن حضارة كوش من خلال حفريات النقعة وجولي أندرسون الكندية عن ممالك النوبة القديمة (المقرة و علوة و نبتة ) . خاتمة وهامش : إن الترهات والتشويهات التي اتخذ منها بعض إعلامي مصر مدخلاً للهزوء والسخرية من تأريخ السودان القديم ليست سوى استظهار للعقل المصري السياسي المتوارث من زمان الذهنية المصرية القديمة التي لا ترى في تأريخ السودان وإرثه الحضاري سوى صدى وشبح أو صورة طمساء "عفريتة" مشوهة ناقصة الأبعاد باهتة الألوان للأصل المصري !! هامش : يؤم المتحف البريطاني سنوياً ملايين الزوار والسواح دون أن يدفعوا رسم دخول: فالدخول مجاناً .. وعندما شكا لي مدير المتحف من ضعف الموازنة المخصصة لهم قلت له لماذا لا يتقاضى المتحف رسم دخول بسيط يدر عليكم الملايين من الجنيهات؟ علق لي بقوله: إن القانون يمنعنا من الجبايات لأن المتحف خدمة مجانية للتوعية والتثقيف مثل المدارس .. وأضاف سبباً آخر إذ قال: إن معظم مقتنيات المتحف جلبناها من مستعمراتنا السابقة في إفريقيا وآسيا أي "سرقناها" منكم فهل يجوز لنا أخلاقياً أن نطلب منكم ثمناً لرؤيتها ؟! +++++ د. حسن عابدين باحث وسفير سابق 3 إبريل 2017 م [email protected]