لم يجد علي محمود الموسوم بالوضوح غير أن يطلق صرخة داوية تحت قبة البرلمان القومي حينما كان وزيراً للمالية صادعاً : " إن القوانين التي تشرع للتعاقدات الخاصة باتت فوق الجميع، ورغم أنف الدستور والقوانين الأخرى". ما جهر به محمود قبل أعوام مضت، ظل يظهر كل عام في تقارير المراجع العام، وفي المستندات المسربة من بعض المؤسسات الحكومية، والتي تكشف عن استمرار التعاقدات الخاصة، على الرغم من صدور قرار برهنها بموافقة مجلس الوزراء وفقاً لشروط محددة. وهذا ما يعتبره كثيرون ضرباً أشد خطورة من ضروب الفساد المستشري بالبلاد. تجاوز قانوني ماغشي الخدمة المدنية منذ ما يقارب من الثلاثة عقود جعلها بشهادة خبراء تتنازل عن مكانتها التي عرفت بها عربياً وأفريقياً، فقد بلغت مرحلة بعيدة من الضعف والتردي ، وهذا ما جعل المشرعين يلجأون إلى فتح باب يخوّل للوحدات والمؤسسات الحكومية الاستعانة بكوادر حقيقية، يمكنها أن تؤدي مهاماً لا يوجد من يستطيع إنجازها في الوحدة المعنية ، ورغم هذا التشريع الذي في ظاهره يهدف لضخ دماء جديدة ذات كفاءة في شرايين جسد الخدمة المدنية، إلا أن البعض يؤكد أن الهدف منها مزيداً من التمكين للحزب الحاكم ، ويستدلون بشاغلي المناصب الخاصة الذي يؤكدون على أنهم يكونون دائماً على صلة بالمؤتمر الوطني، أو تجمعهم صلة قربى بالذي يقف وراء تعيينهم، وبالعودة إلى قانون الخدمة المدنية للعام 2007 فإن المادة (27) تشير إلى أن قرار التعاقد يصدر من مجلس الوزراء بناءً على توصية من الوزير المختص ، وتوضح فقرة في ذات المادة أن شروط التعاقد تتمثل في أن يكون المتعاقد معه سودانياً أو أجنبياً لأداء مهام محددة تحتم الضرورة أداؤها عن طريق التعاقد، كما منحت المادة 4 من لائحة الخدمة المدنية القومية لسنة 2007 مجلس الوزراء الحق في إصدار قرار منه بناءً على ترشيح الوزير المختص وتوصيته ووزير المالية في حالات استثنائية: "تعيين سوداني من ذوي التأهيل العلمي والخبرات الرفيعة أو النادرة بعقد خاص لأداء مهمة محددة لفترة أو فترات محددة" ، ويحدد العقد ما يمنح له من أجر وبدلات ومخصصات ، فيما أوضح قرار مجلس الوزراء الصادر في 16/10/2010م في شأن تحديد مخصصات وامتيازات الخبراء الوطنيين والمستشارين وأسس التعاقد الخاص، حيث نص على أن يكون تعيين مديري الهيئات والمؤسسات العامة الاقتصادية وشركات القطاع العام في المدة التي يتفق عليها وزير المالية والوزير المختص والأجهزة المختصة الأخرى. ثورة محمود وزير المالية السابق علي محمود لم يثر تحت قبة البرلمان هذه القضية من فراغ، ويبدو أنه وصل إلى قناعة صعوبة إيقاف التعاقدات الخاصة التي تتم بعيداً عن وزارته ومجلس الوزراء، فلم يجد غير المجلس الوطني لبث شكواه، لأنه كما بدا من حديثه أن التعاقدات تتم بعيداً عن الشروط التي حددتها لائحة الخدمة المدنية للعام 2007 . أكبر تجاوز من أكبر القضايا التي طغت على السطح فيما يتعلق بالمخالفات التي تشوب بعضاً من التعاقدات الخاصة بمؤسسات الدولة ، ما أثير بوزارة الإرشاد في ولاية الدكتور أزهري التجاني الذي أبرم عقداً خاصاً مع أحد المديرين في العام 2009 ، وقد أكد تقرير رسمي أن التعاقد تم دون موافقة مجلس الوزراء، وبعيداً عن لائحة الخدمة المدنية لعام 2007 ، حيث نص وقتها على مخصصات رأت التقارير الرسمية أنها تفوق المحددة بالقانون، ومنها 240 ألفاً للأجر سنوي ،36 ألفاً لبدل العربة،60 ألفاً للعلاج،والإجازة 20 ألفاً ، و80 ألفاً لحافز العيدين ، ومثلها بدل السكن، وثالثة للتأمينات الاجتماعية، وكان إجمالي العقد في العام 590 ألف جنيه ، بالإضافة إلى «4» تذاكر سفر ذهاباً وإياباً خلال العام بدرجة رجال أعمال أو ما يعادلها نقداً، وتكلفة استخدام الإنترنت للاستخدام الرسمي والشخصي، بدل مأموريات وتذاكر خارج السودان، الحوافز وفق التطوير والاستثمار، إعفاء من ضريبة الدخل الشخصي أو أية ضرائب أخرى، عربة أو بدل عربة تقدره الإدارة مع الوقود والتأمين الشامل والصيانة للاستعمال الشخصي والرسمي مع سائق، غير أن الملاحظات حول العقد تمثلت في عدم توثيقه من قبل وزارة العدل وتم إبرامه دون شهود، وقد جاء في تقرير رسمي في 17 يناير 2012م بشأن التحقيق في تجاوزات مالية واعتداءات على أموال الأوقاف بالخارج، جاء فيه: «أفادنا مسؤول بالأوقاف أن الأمين العام لديوان الأوقاف يحتفظ بعقد عمله، ولم يودعه الملف لوجود نص في العقد يشير إلى حق الاحتفاظ بالعقد بين الطرفين المتعاقدين فقط. البرلمان يتدخل ولأعوام متصلة ظل المراجع العام يكشف تحت قبة البرلمان عن وجود تجاوزات واضحة وصريحة بعدد من مؤسسات الحكومة فيما يتعلق بالتعاقدات الخاصة ، وظل يطالب بحسم هذا الأمر والمراجع العام، وفي أكثر من مرة ظل يؤكد أمام البرلمان على أن كل «التعاقدات الخاصة» التي تمّت بالدولة، ومن بينها تعاقد مع خبيرين بهيئة الطيران المدني بمبلغ «607» آلاف دولار في السنة، تعاقدات تمت دون علم مجلس الوزراء، وهو أمر يخالف نص القانون. مطالبة بالحسم وحينما تكررت الشكاوي أمام الجهاز التشريعي والرقابي فإن القيادي بالمؤتمر الوطني ورئيس لجنة التشريع والعدل بالبرلمان الفاضل حاج سليمان طالب بوجوب اتخاذ قرارات واضحة فيما يتعلق بالتعاقدات الخاصة داخل المؤسسات الحكومية، لافتاً إلى أن تقارير المراجع العام كشفت عن تعاقدات خاصة في مؤسسات حكومية بينها بنك السودان بمبالغ كبيرة دون مبرر. الولايات ذات المشاهد وفي هذا العام والسابق فإن تقارير المراجع العام حفلت بتجاوزات واضحة في التعاقدات الخاصة مع موظفين وخبراء، وكان ديوان المراجعة القومي قد كشف عن منح بعض المتعاقدين في وحدات ومؤسسات ولاية الخرطوم مخصصات تتجاوز ما نصت عليه القرارات المنظمة للتعاقدات الخاصة، فضلاً عن إبرام تعاقدات لشغل وظائف هيكلية وغير هيكلية، وأكد تقرير المراجعة أن بعض الوحدات أبرمت (33) عقدًا دون الحصول على موافقة الجهات المختصة المحددة بالقرار المنظم لذلك، وبلغت تكلفتها السنوية (1,601,166,29) جنيهاً، إضافة إلى أن العقودات لم توثّق بواسطة المستشار القانوني لوزارة المالية، ولفت التقرير إلى أن حجم التعاقدات الشخصية (الخاصة) التي أبرمت تخل بالهياكل الوظيفية ومبدأ العدالة في التعيين ومنح الأجر بالتساوي، ونبه على أن الأمر يتطلب مراجعة قانون ولائحة الخدمة المدنية الولائية حتى يمكن استيعاب ومعالجة تلك الملاحظات. المفوضية تتبرأ سألت مدير إدارة التخطيط والتدريب بالمفوضية القومية للاختيار للخدمة المدنية الدكتور طه بامكار عن ولايتهم على التعاقدات الخاصة التي تتم بعدد من المؤسسات والوحدات الحكومية، فنفى علاقتهم بها، وقال في حديثه ل(الصيحة): إن العقودات تتم خارج منظومة الخدمة المدنية، ولا يملك ديوان شؤون الخدمة ومفوضية الاختيار سلطة عليها ، معتبراً أن هذا الأمر خاطئ، وقد يمثل وجهاً لإهدار المال العام ، رغم إشارته إلى أن بعض المؤسسات ربما تكون في حاجة إلى كفاءة نادرة لتتعاقد معها لأداء مهمة محددة ، ورغم إقراره بهذا الأمر، إلا أن بامكار يشدد على أهمية أن يتم اختيار الكفاءة قبل التعاقد معها عبر لجنة مختصة، ووفقاً لأسس منظومة معروفة، وذلك للوصول إلى أفضل الكفاءات، لافتاً إلى أن مهمة المفوضية تحقيق تنافس حر وشفاف وعادل لكل السودانيين للوظيفة العامة في السودان ، وأن هذا يجعلها مؤهلة لإخضاع المرشحين للوظائف النادرة التي تتم عبر التعاقد لتنافس عادل وشفاف يفرز عن أفضل الكفاءات ليتم التعاقد معها، مبيناً أن المفوضية وصلت مرحلة الاستغناء عن البشر في الامتحانات بعد أن تحوّلت إلى إلكترونية، وذلك بحثاً عن العدالة والشفافية بين المتنافسين للوظيفة العامة، لافتاً إلى أن عدداً من المؤسسات الحكومية تطلب موظفين لشغل وظائف في مداخل الخدمة والخبرات، وتطالبها المفوضية بتحديد الوصف الوظيفي لنشر الإعلان، ومن ثم إجراء المعاينات ، مؤكداً أنهم بهذا المنهج الشفاف يرفدون مؤسسات الحكومة بكوادر متميزة تمكنت من إثبات كفاءاتها عبر الامتحانات والمعاينات ، وقال إن التعاقد المباشر لا يدخل ضمن صلاحيات المفوضية التي أكدت قدرتها على تولي هذا الأمر، وطرحه للتنافس، وليس عن طريق الاختيار المباشر الذي ينتهجه مديرو المؤسسات. الصيحة