في الطريق إلى محمية الدندر شحنتُ مُخيلتي بأشياء ظننتها حقيقة تفصل بيننا المسافة فقط لتُصبح ملموسة ومُعاشة ، إلا أنّها كانت مُغايرة البتة ، كُل شئ كان مُختلف عما ظننت وتوقعت ، وكأن شيئاً ما صفعني في وجهي قائلاً : ( أفيقي ، ليست كل الأحلام حقيقة ) والخيال هنا يُصبح عدواً شرس لأنّه يسلبنا حتى القليل الذي حظينا به . يقولون إنّ الجواب من عنوانه يبين ، وأنّ الغيث أوله قطرة ، وأنّ بداية الطريق تُشير إلى أين ستذهب ، وكُلها صدقت ، حيث قادني هذا الطريق الذي أطلقت عليه طريق ( النار ) إلى رؤية ومعانقة جوهرة طبيعية خصنا الله بها ولكننا أجحفنا في حقها حد البكاء ، نعم ، تستحق محمية ( الدندر) البكاء لأجلها ، ودق سرادق العزاء إلى حين لفت إنتباه كافة الجهات ذات الإختصاص إلى أنّ أكبر المحميات البرية ( البكر) في العالم إلى زوال إنّ إستمر هذا الإهمال كثيراً . محمية الدندر في العام (1935) أعلنت بريطانيا عن محمية الدندر كمحمية طبيعية بعد أنّ أدهشها تعدد الحيوانات والنباتات في هذه المنطقة ، وبعدها بعامين إكتملت إجراءات تسجيلها عقب مؤتمر لندن الشهير والذي بموجبه تم إنشاء العديد من المحميات في أفريقيا ، وتنزانيا وكينيا وغيرها ، حيث تم منع الإستيطان والرعي ودخول أيّ شخص أو ممارسة أيّ نشاط بشري . عُرف السودان بمساحاته الشاسعة الممتدة، فمساحة محمية الدندر فقط تفوق مساحات العديد من الدول العربية ، وتبلغ مساحتها (10291) كلم مربع ، وتحدها حدود ثلاثة ولايات (سنار ، النيل الأزرق ، والقضارف ) ، إضافة إلى حدودها مع (أثيوبيا) . الملاحظ أنّ محمية الدندر ومنذ الإستعمار كانت أشبه بالكنز المدفون ، الكل يعلم أهميتها وما تزخر به من مميزات لو وجدت قليل من الإهتمام لنافست البترول والتعدين ، وأصبحت من أهم موارد البلاد، إلا أنّها عانت من الإهمال الشديد ، فأصبحت مثل كنز (علي بابا) مدفونة في مغارته ، عليها غبار ، يجب أنّ يزال لتوضح معالمها من جديد . القيد والسجان "برغم القيد والسجان لم أحقد على بلدي ، برغم السور والتعتيم والطعنات في كبدي".. ، إستمعت إلى إنشودة (القيد والسجان) قبل فترة قصيرة ، ويومها لم أدقق فيما تحاول أنّ تقوله كلماتها كثيراً أو ربما لم أفهمها على وجهها الصحيح، ولكنني تسألت متعجبة ما علاقة حب الوطن بكل هذه الأشياء ( القيود ، المعاناة ، والفقر ) ؟! ، والأن يبدو أنني وجدت إجابة لهذا السؤال ؛ فحينما يرى الإنسان كل هذا البؤس والإهمال يكاد يفتك بكل شئ ، وعندما تقف على حافة الفقر ، ولكنك تُحاول التشبس ببقاية الصبر ؛ فإن كافة المشاعر الجميلة تذوب في داخلك كما يذوب الملح في الماء . طريق وعر المُصابين بالأزمة وإضطرابات الجهاز التنفسي لن يستطيعوا قطع ثُلث المسافة المُؤدية إلى المحمية ، والتي تستغرق قُرابة الخمسة ساعات من محلية ( الدندر) لمن يركبون (هايس) قوية المكنة يقودها سائق (شفت) كما أطلقنا عليه نحن ، يعلم المطبات الفُجائية ، متى يُسرع ومتى ( يدوس ) على الفرامل مقللاً السرعة ، ولا علم لي كم ساعة تستغرق المسافة ب(اللوري) أو (البابور) بإعتبارهما أهم وسائل النقل المستخدمة في المنطقة ، وكم جهد وطاقة وصبر تحتاج .... الغبار سيد الموقف حُبيبات التراب الناعمة ، تتسلل كلص ماهر عبر منافذ العربة ( هايس ) ، وهنا أمامك أمران لا حُلو بينهما كِلاهما مر ، فأما أنّ تُغلق الزجاج وفي هذه الحالة ستجد الحُبيبات المساكشة طريقة للدخول فتعبي المكان حتى تكاد لا ترى من يجلس قُربك ، أو تترك الزجاج مفتوح لتدخل على هيئة جيوش جبارة تُحيل الوضع إلى مأساوي بحت وتحجب ملامح وجهك حتى يُخيل إليك أنّ ( دفار ) من التراب إنساب عليك ... لا خيار سوى أنّ تترك النوافذ مشرعة وتصبر . مسافات شاسعة هذه المسافات الشاسعة الممتدة الخالية إلا من شُجيرات جامحة قاومت وإستبسلت من أجل البقاء فكان لها ما أرادت ، يلمحهها البصر من بعيد كُل حين ، تجعل الجميع يُتمتم ( البلد دي واسعة ) ، ثم يعقبها تأسف خجول ( بلا فايدة ) ، وإقتراحات على شاكلة ، لماذا لا تمُنح هذه الأراضي لمستثمرين يحلون هذا (البادوبة) داكنة اللون ، إلى خضار يسر الناظرين وتُحيل ذاك الشعار ( السودان سلة غذاء العالم ) لحقيقة ، وسرعان ما نعود لنسأل السائق (أها فاضل كم ساعة )؟!. أعزار واهية مشكلة ووعورة الطريق المؤدي إلى المحمية من أهم التحديات التي تواجه القائمين على أمرها ، وفي سؤال طرحته ( المستقلة ) على مدير شرطة الحياة البرية عقيد شرطة عادل محمد عبدالله عن ماهي الحلول المطروحة على منضدتهم لحل هذه المعضلة ، قال " عبدالله " إنّ الأرض الطينية اللزجة جعلت من مهمة إنشاء زلط شبه مستحيلة ، مُضيفاً لقد عملنا لقُرابة ال(10) مرات على تسوية هذا الطريق إلا أنّه سرعان ما يعود لما كان عليه ، بيد أنّ ما وضعه من أعزار لم يجد قبولاً لدى البعض ، واصفينها بالأعزار الواهية والغير منطقية ، فقد حول الناس الجبال لطرق ، وهذه أرض مسطحة جاهزة ، فقط عزيمة والقليل من المجهود ليتحول هذا الوضع السيئ إلى جيد أو مقبول في أضعف الأحوال . قُرى متناثرة وأنت تتلصص النظر عبر النوافذ ،يتراءى إليك من على البعد بعض القرى ، وأحياناً نقترب منها كثيراً ، وأحايين أخرى نخترق قلبها ، ثم نتركها كماهي وتتركنا مذهولين من ما رأينا ، الفقر فيها كان القاسم المشترك ، لا أختلاف سوى في الإسم ، حرصت على معرفتها كلها ، إنفرط من يدي عِقد العدد إثر نعاس داهمني ولكنها قُرابة ال(21) قرية تبدء حدودها منذ الخروج من الدندر المدينة وحتى إختراق مدخل المحمية ، كُنت اسأل مساعد السائق بإعتباره إبن هذه المنطقة ويعلم خفاياها ، ولم يخيب ظني فيه ، فراح يسرد لي بالتفصيل ، يفك طلاسم أيّ قرية مررنا بحذوها ، ما أسمها ، وماهي القبائل ذات الأغلبية فيها ؟ ، ماذا يعملون ؟ ، لديهم كهرباء ومياه ؟ ، أم لا ..... ألخ . فقراء ولكن القُرى في الطليعة بدء شكلها مقبول ، لديهم كهرباء ومياه ومساكنهم لا بأس بها ، إلا أنه كلما تعمقت يسوء الأمر كثيراً ، فكل متر نقطعه تفقد فيه إحدى القرى شيئاً مهماً ، بعضها تعتمد على الصهاريج فتلاحظ تراكم الأهالي بالقرب منها بُغية ( باقة) مياه تسد رمقهم وذويهم ،، والبعض الأخر يعتمدون كُلياً على ( الكرجاكات) فيتمطوح النساء نزولاً وطلوعاً لتنساب المياه وتجرى على أوانيهم تباعاً ، وبعضها تعُج في ظلاماً دامس بالرغم من وقوف أعمدة الكهرباء في أزقة شوارعها ، ومثل الخدمات تكون المنازل في محاولاتك للدخول إليها فإنك تضطر أن تحني رأسك فهي بالكاد ترتفع عن الأرض بسنتمترات قليلة ، لكن رغم ذلك فهي مسكونة بالتعب والرهق وهوان الناس على حكوماتهم وفي ذات الوقت مفروشة بالإبتسامة ويقطنها الكرم . نبات الأنزاوة يقول الشاب بثقة العارف ل( المستقلة) مشيراً بيده ألى أُولى القرى هذه قرية ( أبو هشيب) مضيفاً جُل مواطنيها من " العرب" حيث يعتمدون على الرعى وقبل أن يكمل حديثه كنا قد وصلنا إلى قرية ( باما) والتي تسبقها أراضي شاسعة تستغلها (الانزاوة ) وهي نبات ذا سيقان ذهبية يستخدمها الأهالي في صناعة ( الصريف) المستخدم في تسوير المنازل هناك وعرشها ، الا أنها في فصل الخريف تتحول إلى قناديل ذرة ( عيش) مثمرة ، ثم قرية ( أرموا) موطن قبيلة( الهوسا)، ثم قرية (دبكروا) و( أب رخيص ، العقرب ، طويلة ، حلة صالح ، حلة بخيت ، أم بقرة ، العزازة ، كسيد ، لويزة ، خميسة ،والخ .....) ، علماً بأن غالبية هذه القرى مُدت بالتيار الكهربائي مطلع العام الحالي ، مُشيراً إلى خلوها من الأسواق حيث يطر الأهالي الذهاب إلى (الدندر) للتبضع ،بتعريفة تبلغ ال(20) جنيه ذهابا ومثلها إياب . خريف البوابير يضيف محدثناً أنّ ما شاهدته من معاناة في هذه القرى ليس شيئاً يُذكر مقارنةً بما يحدث في الخريف حيث تغلق المياه الطرق ، وتمتلي ( الخيران ) ويصعب على وسائل المواصلات التنقل فيختار أصحابها التوقف مكرهين ، ويصبح لا خيار سوى (بوابير) الحراثة يستخدمها الأهالي(للشديد القوي) حيث يقضون يوما كامل في الطريق للوصول إلى الدندر ،واحيانا تنقطع قرية برمتها لمدة اشهر متواصلة عن المدينة حتي تجف المياه أو تقل من أجل الوصول إلى المدينة لذلك يتخوف المواطنين من موسم الخريف الذي يتحول إلى موسم للتقشف والمعاناة الجمة . طريق سياحي طُوال الخمسة ساعات التي قضيناها في الطريق لم نلمح (كافتيريا) واحدة تلبي إحتياجات المسافرين ولو من باب التيمن بالدول السياحية والتي تستغل مثل هذه الطرق لفتح منافذ سياحية إضافية غير المنفذ الرئيس وتسائلت عن كيف كان سيبدو حال هذه القرى لو تعاملت الجهات المسؤولة على أنّه طريق سياحي يجب أن يستقل ؟!. الحقلة القادمة من داخل محمية الدندر .... أين ذهبت الحيوانات ؟!