وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فوزي بشرى ذو الصوت الشجي والتقارير التي هزّت عروش الطغاة : لم أجد الطيِّب صالح في العربية، وقرأته بلسان أعجمي
نشر في الراكوبة يوم 22 - 08 - 2011

فوزي بشرى ذاك الاسم الذي أعاد إلى (التقارير) الإخبارية تجلِّي اللغة وبيان العربية وسحرها الأخّاذ.. عندما زاحم بكلماته (الصورة) وكانت مفردته أكثرا إيفاءً وبلاغة من (المشهد المصوَّر). هذا الرجل بالملفحة البيضاء والبشرة السمراء. عندما فاز بارك أوباما برئاسة البيت الأبيض كان تقرير فوزي عن ذلك الفوز أكثر إدهاشاً من فوز أوباما نفسه.. وعندما تنحَّى مبارك هرع الناس جلوساً لقناة الجزيرة ليسمعوا تقرير فوزي بشرى... قال مبارك (إنني أعي هذه التطلعات المشروعة للشعب، وأعلم جيداً قدر همومه ومعاناته) كذلك قال زين العابدين من قبل، أفلا يزال في مدرسة القادة والزعماء من لم يفهم الدرس بعد على بساطته). أعجب من هذا الرجل الذي جعل تقاريره الإخبارية في مرتبة واحدة مع (أغداً ألقاك) لكوكب الشرق ..أو إنها كانت مثل (الطير المهاجر) أروع ما كتب صلاح أحمد إبراهيم أجمل ما تغنى محمد وردي. بكل هذه التضاريس والمناخات الدافئة جلسنا نحاور فوزي بشرى.
حوار: محمد عبدالماجد: خالد فتحي: جمال إدريس: محمد عبدالحكم - تصوير: إبراهيم حسين:
} هل كنت ترتب لأن تصبح في يوم ما إعلامياً كبيراً؟ وهل كانت لديك علامات أو ميول للإعلام أثناء فترة طفولتك؟.
بداية أنا أفتكر إنو الرغبات في الحياة السودانية، هي رغبات مصدّرة أكثر مما تكون رغبات الفرد الحقيقية، بمعنى هي رغبات مفروضة عليك، لذلك كثيراً ما تلحظ في الناس أنهم يدركون الوعي بذواتهم في وقت متأخر؛ فتجد الطبيب الصحفي، أو الطبيب السياسي، أو المهندس رجل الأعمال، وهكذا. لذلك يقع شيء من تضاد بين التأهيل الأكاديمي، وبين الرغبات المُصادرة، التي إما أنها تُقبر تماماً ولا تجد فرصة لتفصح عن نفسها في مرحلة وعي تالية، أو أن تنجح في فرض نفسها وتنتصر على مسألة التأهيل الأكاديمي المفارق للنوازع الحقيقية. لذلك تجد كثيراً من الناس الذين أخذتهم الحياة إلى نشاطات عملية غير التي أُهّلوا لها رغم حرص معلمينا في المرحلة الابتدائية على استنطاق هذه الرغبات، وكل منا يذكر الأستاذ عندما يبدأ يسأل التلاميذ في الصف عن «ماذا تحب أن تصبح عندما تكبر؟»، بل إن أناشيدنا كانت تتحدث عن ذلك: «يا تٌرى ماذا أصير عندما أغدو كبير». وأعتقد أن ذلك كان محاولة لاكتشاف الرغبات ومن ثَم رعايتها. لكن بصورة أخرى حتى غياب النماذج بالنسبة لنا نحن القادمين من الريف، فإن مفهوم الطبيب عندنا ليس هو مفهوم الطبيب المكرّس في المدينة، وكذا المهندس، لأنهما قد لا يكونا موجودين في حياتنا وفي نطاق المنطقة كلها، بمعنى أنه ليس هناك صورة ذهنية للمهندس أو الطبيب لتصبح مثلهما. لذلك أنا أتصور سواء تعلق الأمر بي أم بغيري، إنو حالتنا أشبه بما أسميه حالات «النمو الطليق» غير المحدد والمسبب، فهناك مثلاً رسامون عظماء انتهوا «بشخبطات» في «الكراريس» ورسومات في الحوائط، ولم تجد من يرعاها. وكذلك هناك شعراء تتم مصادرتهم بالعقلية الجماعية المتمرّدة على حالة الفردانية التي يعبّر عنها الشاعر أو المغنّي، فدائماً ما يُواجهوا بمقولة «عامل فيها شاعر، عامل فيها رسّام»، وهكذا.. فالحياة السودانية بشكل عام سواء كانت في المجتمع أو في المدارس، لا تقوم على رعاية المواهب، حتى اليوم. وأنا أتصور أننا ليس لدينا الوعي لرؤية أن هناك مثلاً مجموعة من الطلاب هم مشاريع شيء ما.
} ماذا عن فوزي بشرى بالتحديد؟.
بالنسبة لي شخصياً لم يكن في بالي مهنة معلومة أو على الأقل حلم بشيء ما، يمكن يكون الحلم هو الكتابة و القراءة، فالقراءة كنا نعلم أنها تفتح لنا أبواب من المعارف والعوالم الأخرى، عوالم ربما تكون أكثر غنًى من عالمنا الذي نعيش فيه، فمثلاً في منطقتنا، سنجة وتحديداً «أبو حجار»، وفي قريتنا «الليونة» لم تكن هناك في ذلك الوقت تلفزيونات، ولك أن تتصور طفولة لا يشكل التلفزيون جزءاً منها، وأنا أتصور أن ذلك الأمر كان نعمة عظيمة بالنسبة لنا؛ لأن البديل الآخر أصبح القراءة، كانت قراءتنا محدودة جداً، لدرجة أنه تصيبك حالة من الاندهاش والمتعة إذا وجدت مجلة أو مطبوعة قديمة يكون لها سنة مثلاً. وأذكر جيداً أننا ونحن طلاب كنا نصطف لقراءة «مجلة العربي» بالدور، وكان كل منا يأخذها لديه يوم أو يومين، ثم تنتقل لشخص آخر..
} ومن أين كنتم تتحصلون على «مجلة العربي» بانتظام؟ مَن الذي كان يأتي بها لكم؟
كان يأتي بها البعض لمنطقتنا، لأنه لم تكن توجد بها مكتبة عامة، بالرغم من أن مدرستنا بأبي حجار أُفتتحت في العام 1936 وهي مدرسة عريقة جداً، لكن لبيئة المنطقة بطبيعتها العملية الزراعية والرعوية، فضلاً على محدودية التعليم في ذلك الوقت؛ لم تجعل مشروع المكتبة مشروعاً مغرياً لأي شخص ليستثمر فيه، وكانت المدينة الأقرب لنا التي تصلها الصحف والمجلات، هي مدينة سنجة، ومنها كانت تصل لبعض المحظوظين تلك المجلات. ثم بدأنا ندّخر ونغتني ونذهب لشرائها من سنجة. أعود لبداية السؤال وأقول لا أتصور أنه كان هناك وعي منا لفكرة الانشداد لوظيفة محددة أو مشروع ما، في تلك المرحلة الباكرة من العمر. ربما كانت المعرفة نفسها هي مبتغانا ومطلبنا، وأستطيع أن أقول بأننا من الذين أصابوا آخر ما يمكن أن تسميه ب«العصر الذهبي للتعليم»، في كل مراحله الدراسية، لأننا وجدنا معلمين مميزين لا أتوقع أن تجد لهم أنداداً أو نظائر الآن.
} هل بدأت ميولك الإعلامية تتشكل بعد دخولك جامعة الخرطوم؟
لا.. لا، لم يكن لي هم بالصحافة والإعلام رغم ان فكرة غريبة استقرت في ذهني في المرحلة المتوسطة أن وزير الثقافة والإعلام هو اكبر مثقف في البلاد، وهو تصور ثبت بطلانه وسخفه ولكنه لم يوقف مسيرنا الطويل من اجل التحصيل الثقافي. لذلك كل ما له صلة بالثقافة والمعرفة كان يشكل لي منطقة جذب ومنطقة انتماء، لكنني كنت أعي على الأقل قدرات معينة في الكتابة، منذ فترة كتابة الإنشاء، وكنت استعظم فكرة الكتابة، وكنت أتصور أن الإنشاء، كما يدل الاسم، يعني أن تنشئ شيئاً جديداً. ولهذا كنت أخشى حصة الإنشاء كما لا أخشى غيرها، لأنك في كل العلوم الأخرى أنت ليس مطالب بأن تنشئ شيئاً جديداً، بل تكون مطالباً بأن تستحضر علماً تعلمته. كنت أستعظم فكرة الإنشاء لأن بها تحدّياً لا تجده في أي علم آخر، ففي الرياضيات مثلاً أنت مطالب بأن تستحضر جدول الضرب، فإذا علمته أمنت «الضرب». أما في الإنشاء فأنت مطالب بأن تنشئ وتأتي بشيء جديد. وأول مرة أشعر بشيء من الجزاء لفكرة الخوف وتعظيم فعل الكتابة، كنت حينها في الصف الثاني المتوسط، وكان لدينا واحد من أعظم الأساتذة الذين درسونا بأبي حجار، هو الأستاذ سليم أحمد حمد الله، أستاذ اللغة العربية، وكان رجلا مقتصدا في الثناء على طلابه، لدرجة أنك لو ظفرت منه بعبارة «لا بأس» تستطيع وأنت مطمئن بأن تمر على كل الفصول فخوراً بها، و»لا بأس» عند سليم كانت تعني ممتاز جداً عند غيره من الأساتذة. في مرة علّق على موضوعي بعبارة «لا بأس، فقط الموضوع منقول». عندها أدركت بأنني كتبت شيئاً خطيراً ويشبه أن يكون مما هو في المطبوعات، وخالجني وقتها أحساس جميل، بأنني في ذاك اليوم استطعت أن أنشيء شيئاً جديداً، وهذا الشيء من حسن عمله اشتبه على أستاذ مثل الأستاذ سليم، الذي لم يتفطن إليه إن كان لي أم لشخص آخر. من بعد ذلك كان هناك ولع كبير من جانبي باللغة، ولكن حتى تلك الفترة لم تظهر أي فكرة أو ميول للإعلام. ولا بد أن أذكر هنا أستاذ آخر فتح أعيننا على اللغة العربية، وترك أثراً كبيراً على معارفنا وعلى تربية ذائقتنا، هو أستاذي في المرحلة الابتدائية مبارك الضاوي، وهو من أجل الأساتذة الذين درسونا. وبداية الوعي مع اللغة بدأ معه، حيث كان يحرضنا على القراءة من المكتبة المدرسية، وتحولت فكرة القراءة معه، إلى فكرة فض مغاليق الكتب، واكتشاف العالم السحري وراء النص المكتوب، وهي فكرة بها الكثير من الغواية، حيث تبدأ تكتشف أن هذا الكتاب الصامت وراءه قصص وعوالم سحرية، وتبدأ بعد ذلك حالة التورط في أنك تظل تقرأ وتقرأ باستمرار. أنا لم أكن في يوم من الأيام معني بالكتابة، رغم أنني كنت أحس في داخلي، بأن الكتابة في رأيي فعل مؤلم وقاسي، الكتابة بشكلها العام، بما فيها كتابة الإنشاء أيام المدرسة، والقراءة هي الوجه الآخر للكتابة، القارئ الجيد هو كاتب جيد في حالة خمول، وتكون هناك عملية تعاطي، أو ما يسميه النقاد «إنتاج النص الجديد». وأنا أزعم أنني قرأت ما استطعت في وقت لم تكن فيه القراءة تشكل هماً للكثير من أندادي، لكن فكرة التحريض نفسها تواطأ عليها اثنان من أعز أصدقائي، هما محمد عبيد، وهو أستاذ لغة انجليزية الآن بمدارس الخرطوم، و صالح أحمد صالح، وهو الآن مدير تعليم بولاية سنار. كان محمد عبيد الآتي إلى منطقتنا مع اسرته من حي برّي بالخرطوم، كان بمثابة الوجه البديل لبداوتنا وقرويتنا، فكان يأتي إلينا محمّلاً بالمجلات والإصدارات، مثل صباح الخير، روز اليوسف، الروايات الرومانسية الصغيرة، وقصص ارسين لوبين، وغيرها. وكان محمد بالنسبة لنا أول شخص رأينا عنده فكرة امتلاك الكتاب ونحن في المرحلة الابتدائية أما صالح فقد كان واحد من آلاف العبقريات التي قبرت في الريف السوداني بسبب الاهمال، وبسبب شكل مناهجنا الدراسية، وهو أول شخص شكل حالة من التحدي الكبير لنا، في فعل الكتاب والقراءة معاً، ففي يوم من الأيام اكتشفت أن صالح لديه مقال نُشر في مجلة الشباب والرياضة، وهو بعد في الصف الثالث المتوسط. وأول ما يتحول لديك فعل الإنشاء المدرسي إلى كتابة مطبوعة، يتقدّس الفعل، لأن الكلمة تتقدس بالكتابة، وتنفصل عنك، وتصير لها حياة أخرى، وتصير كائن آخر. فأصبح معنا شخص ينشر كتاباته، تماماً مثل الفنان الجديد عندما يسمع صوته في الإذاعة لأول مرة. عشنا نحن ثلاثتنا صحبة ثقافية جميلة منذ المرحلة المتوسطة حتى الثانوية، وكان بها الكثير من التنافس في القراءة. وحتى تلك المرحلة إلى ما قبل الجامعة تستطيع القول بأنه كان هناك وعيٌ بالقدرة على القراءة المبدعة والتعاطي مع النص، وأنه نشأت لدينا عبر أساتذتنا الأجلاء، مبارك الضاوي في الابتدائية وصديق مساعد، وسليم حمد الله وعمر احمد الشيخ في المتوسطة وأحمد الباقر سعيد في المرحلة الثانوية، علاقة حميمة باللغة، وخلقوا لدينا هذه الذائقة تجاهها، وأتصور أنهم كانوا منصة انطلاقنا في عالم الكتابة. صحيح أن زملائي عبيد وصالح انتهوا إلى مناشط ربما تكون حجبتهم عن التواصل مع الرأي العام، عبر وسائل الاعلام أو غيرها، ولكنني أعلم أن كليهما كان سيكون مشروع كُتّاب وصحفيين كبار.
} ماذا عن أحلام الطفولة الصغيرة لديك، هل كان فوزي بشرى القادم من بيئة النيل الأزرق الزراعية، يحلم بأن يكون تربالاً مثلاً يمتلك مزارع كبيرة وبساتين؟
لا لا.. فأنا منذ المرحلة المتوسطة شعرت بأن لدي هوى مع اللغة، وأذكر في مرة سألت ابن خالتي وكان يدرس في كلية الزراعة، وقلت له «كيف هي كلية الآداب؟»، وكنت وقتها في المتوسطة فضحك من سؤالي، لأن الشائع وسط الطلاب ووسط جمهرة المهنيين، أن الآداب ليست بالعلم الجاد، وأعتقد أن هذا جزء من خلل في ذهنية تُعلي من قيمة العملي، وتنحط في التقدير بالجانب المتصل بالثقافة، ولا ادري ان كان ذلك يفسر ضعف «محصولاتنا» من المعارف النظرية ومن حظنا القليل في التأليف فيها، مثلاً هناك تهكمات من الذين هم في المساق العلمي، على من يدرسون التاريخ، ولذلك وقع تضليل مُخل للدراسات المتصلة بالهندسة الروحية والنفسية للشعوب، وهي مباحث مواطنها قطعاً ليس في العلوم، بل في اللغة والمنتوج الثقافي، وفي دراسة التاريخ، والجغرافية. وأيضاً مثال آخر عن دراسة الموسيقى والمسرح، وهي شكل من أشكال العلوم، ولكن يعتبرها الناس إذا كانوا سخيين في الوصف بأنها فنون، وإذا بلغوا من عدم التحرز في عدم ملاطفة من يدرسون في هذه الكلية، يعتبرونها «لعب». أتصور أن هناك عدم تقدير لكل الدراسات المتصلة بالنواحي الانسانية. قلت أن ابن خالتي استغرب بانشغالي بالآداب في تلك المرحلة المبكرة، وأن أكثر ما كان يخشاه أن يكون حلمي دراسة الآداب، فقال لي «شوف ليك علوم أو زراعة زيينا، أو طب او هندسة تقراها وتستفيد منها، آداب ديار بيها شنو».. وأذكر أننا كنا نتحلّق حول حلقات البروفيسور عبد الله الطيب ومحاضراته عبر المذياع، وكنت أجد فيها متعة غير عادية، وأكثر ما شقّ على نفسي أنني عندما جئت إلى كلية الآداب بجامعة الخرطوم، كان البروف عبد الله الطيب غادرها إلى المغرب. وكان سماعه في الراديو والسياحة العظيمة في تاريخ الآداب العربية التي كان يقدمها، كانت تشكل عالم ساحر بالنسبة لي وأمنية، وكنت استبطئ ذلك اليوم الذي أكون فيه طالباً لدى عبد الله الطيب.
} كيف تحولت سفينتك بعد دخولك الجامعة، لتغادر اللغة العربية التي أحببت، وترسو في شواطئ الإعلام؟
أنا بالفعل كان يستهويني التخصص في اللغة العربية، وكنت أتصور نفسي دارسا للغة العربية ومتخصصا فيها، ما كان شيء يعنيني في الحياة قدر أن أجد من القدرة ما يمكنني من دراسة الأدب العربي إلى ما شاء الله. لكن عندما جئت إلى الجامعة واجهت مشكلة أخرى تتصل بمناهجنا الدراسية والتي لا أدرى اذا اصابها شيء من التطوير أم لا، فقبل أن يمضي العام الأول لي في الكلية اكتشفت ما احزنني جداً وصدمت صدمة عظيمة أن أجد قسم اللغة العربية على ذلك القدر من الفقر المعرفي، فأنا كانت في مكتبتي قبل المجيئ إلى الجامعة، كتب الكامل للمبرّد ودواوين الشعر العربي القديم، ومصنفات شوقي ضيف في الادب العربي، وكنت قد قرأتها كلها، ولكن عندما جئت للجامعة وجدت نفسي كمن يبدأ من جديد، ووجدت هذا «التحقيب» للأدب، العصر الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي، وهي عصور ينفق فيها الطالب سنوات أربع في الجامعة، ويتخرّج وقد انقطع به الدرس في العصر العباسي، وانقطع تماماً عن المعاصر من مسرح وروايات جديدة وأساليب في النقد جديدة وغيرها، وكان قسم اللغة العربية مستغرقا في تراثيته وفي بطئه السلحفائي القاتل، وكان يأخذ الناس في هذه العصور ويتركهم في تلك البادية العربية، ولا علم لهم ولا حظ من معرفة براهن الأدب العربي، في نقده وفي شعره وفي غيره. ومن المفارقات الكبرى أن كاتباً مثل الطيب صالح أنا أول تلقّي أكاديمي لروايته، لم يكن في قسم اللغة العربية، بل كان في قسم اللغة الانجليزية. ولذلك أمضيت السنة الثانية والثالثة في قسم الغة العربية، ثم قررت مغادرته إلى الانجليزية، وكان هذا الأمر فيه كثير من العسر النفسي بالنسبة لي؛ أن أغادر مكاناً أحببته، إلى مكان آخر لم تقع بيني وبينه محبة، وهو قسم اللغة الانجليزية. في اللغة الانجليزية وجدت الأدب العربي الحديث، فالطيب صالح الذي لم أجده في قسم اللغة العربية وجدته مترجماً في قسم اللغة الانجليزية، وأصبح كاتبي السوداني أقرأه بلسان أعجمي، ولك أن تتصور حجم المفارقة.
} حسناً.. ألا يعد ذلك في نظرك ضربٌ من عدم التقدير والتقييم لإبداعنا ومبدعينا وأشيائنا كلها، إلا إذا قٌدمت عبر الغير؟ وكيف تنظر لهذه الاشكالية؟
هي بلا شك اشكالية كبيرة، فمثلاً استقر رأي كثير من المتتبعين لحالة أديبنا الطيب صالح هو رجل مبدع ورجل عظيم، لكن لا زال الناس يتساءلون، لو لم يكن قد وجد تلك المكانة العالمية، هل كان وقع له هذا الاحتفاء العظيم من السودانيين. الطيب صالح هوبشكل أو آخر حالة سودانية مصدّرة إلينا، ليست منابرنا الثقافية هي التي صدّرته كأديب للعالم العربي، بل العالم العربي والمنابر الثقافية المسيطرة والمهيمنة هي التي صدّرت الطيب صالح كاتباً عربياً للسودان. وهذا بالتأكيد يرجع لضعف المؤسسة الثقافية السودانية، غير القادرة على فتح الآفاق تجاه الآخرين.. فمثلاً حتى الآن ما انعقد معرضٌ للكتاب بالدوحة إلا وأصاب الإنسان غمٌ مما يرى من بؤس الجناح السوداني، من دون كل الأجنحة ودور النشر العربية، تجد المكتبة السودانية هي الأكثر فقراً والأكثر بؤساً، والأقل تأليفاً وانتاجاً.. وهذا اشكال عظيم، فلو وقع من الانفاق على الثقافة نصف ما يقع مثلاً في عالم الرياضة، لكان وضع السودان الثقافي أفضل، وهذا أيضاً مما يتصل بعدم الوعي بتقديم الذات، فنحن أمه يتم التعبير عنها بالفنون والآداب والموسيقى، ونتاج هذا هو ما يعبّر عن الذات وعن الخصوصية السودانية. الوعي بأهمية هذا الجانب قليل وضعيف لدى المؤسسة الرسمية، وحتى إذا ظهر بعض الاهتمام، يكون اهتمام موسمي سرعان ما ينتهي بإنتهاء المناسبة، سواء كان دورة مدرسية أو أي فعالية ثقافية أخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.