لم ينشغل المواطنون منذ مجيء هذا النظام بأي من قضاياه بمختلف اتجاهاتها، بمثل ما انشغلوا بقضية إعفاء الفريق طه، مدير مكاتب السيد رئيس لجمهورية. ولعل سبب الانشغال مرده إلى الطريقة التي تمت بتا عملية الإعفاء وما اكتنفها من غموض تناقض تماما مع كل الطرق التي ظلت تتبعها حكومة الإنقاذ في إنهاء خدمات أي من العاملين بالمواقع الدستورية المختلفة، التي لم تخرج عن إطلاق بعض الشائعات بمقدم الحدث خاصة بالنسبة للقيادات العليا وحتى يتم إثباته بإصدار القرار الذي يؤكده. على مدى ثلاثة أيام انشغل غالبية المواطنين بما امتلأت به وسائط الإعلام والتواصل الاجتماعي من إخبار عن إعفاء الفريق طه عثمان الحسين، مدير مكاتب السيد رئيس الجمهورية من منصبه بالقصر الجمهوري، حتى تأكد ذلك الخبر مقترنا بقرار تعيين خلفه. الأمر الذي يدل على أن إصدار قرار بإعفاء الرجل لم يكن سهلا على القيادة، وقطعا لها أسبابها، فلم يتم إعفاءه بالطرق التي ألفناها بل هو إعفاء خاص و(مدغمس) أظنكم تذكرون مجموعة المعايير التي أعلنها المؤتمر الوطني على أعتاب الانتخابات السابقة ليتم اختيار مرشحيه لخوض تلك الانتخابات وفق معايرها، بجانب اختيار من سيملئون أيا من المواقع الدستورية الأخرى أيضا، وقلنا حينه،ا أن كاد من سيتصفون بمثل تلك الصفات أن يكونوا رسلا. وعند الممارسة والتطبيق لم نجد أي تغيير في أنماط الاختيار التي ظلت متبعة، والتي كثيرا ما تسمح بغض الطرف عن الكثير من تلك الصفات وبمختلف المبررات التي ألفناها أيضا.. فان كان الترشيح لأي من المواقع الدستورية يتطلب الاتصاف بتلك الصفات المبالغ في ايجابياتها فان الترشيح لبطانة السيد رئيس الجمهورية بالذات، يجب أن تكون الأكثر اتصافا بها، وخاصة الصدق والأمانة، الشفافية والاستقامة، والشجاعة في قولة الحق، وفوق كل هذا وغيره، مخافة الله في القول والفعل،، وغنى عن القول المؤهل والخبرة المناسبة والمطلوبة. هذه المعايير والصفات التي يفترض الاتصاف بها من كل الدستوريين، تجعل من ضرورة أن يتقدم كل مرشح لموقع دستوري بسيرته الذاتية الموثقة أولا، والتي على ضوئها تتحدد صلاحيته لملا الموقع المحدد أم لا. بينما الواقع يشير إلى غير ذلك. فالمواطن لا زال يجهل مؤهلات أو خبرات غالبية حكامه، لذلك ظل يفاجأ بين حين وآخر بارتكابهم للأخطاء التي تدل على أن كلا يحتل غير مكانه. ولعل الجدل المحتدم حالبا حول مؤهلات الفريق طه يدل على خطل الاختيار للمواقع القيادية، حيث يشير البعض إلى أن الرجل كان يعمل بمهنة التمريض قبل أن يقفز منها إلى مواقع لم يكن مؤهلا لها حتى حط رحاله أخيرا بالقصر الجمهوري، بينما يعلن آخرون عن انه قد حصل على مؤهل جامعي حددوا مصدره، ومن ثم سيظل كل ذلك تكهنا ما دام الرجل لم يعلن عن سيرته الذاتية بداية. إذا ما هي الكيفية والمؤهلات التي تم بموجبها اختياره ليحتل ذلك الموقع الهام والذي هو الأكثر حاجة إلى اتصاف من يلتحق به بكل الصفات التي جعلوها معيارا للاختيار لمثل هذه المواقع وتجاهلوها عند التطبيق. وبموجب عدم الاهتمام أو الالتزام بمطالبة كل مقدم على اعتلاء أي موقع دستوري بان يتقدم بسيرته الذاتية، لأول مرة يعلم الكثير من المواطنين بان الفريق طه يحمل الجنسية السعودية يعنى انه (نصف سوداني). وبالطبع لا نبدى استغرابا أو تعجبا في هذا الجانب لعلمنا بان هنالك الكثير من قيادات حكومة الإنقاذ وفى قمة مواقعها، تحمل هي الأخرى جنسيات من مختلف دول العالم وبالطرق المعلومة للجميع. غير أن ما يدعو للدهشة أن الفريق طه ومن وحى سيرته الذاتية التي اكتشفت أخيرا، فانه لم بعمل بالمملكة العربية السعودية بالصورة التي يمكنه ويبيح له الحصول على جنسيتها، علما بأنها أي الجنسية السعودية، يعتبر من أكثر الجنسيات صعوبة في الحصول عليها. يصبح السؤال عن كيف تمكن هذا المواطن من الحصول عليها بهذا اليسر؟ من بدع وإبداعات الرجل يقال انه قد افلح في ترميم وإعادة العلاقات بين السودان ودول الخليج وعلى رأسهم موطنه الثاني، العربية السعودية. حيث استطاع أن يعيد المياه إلى مجاريها الطبيعية بعدان تعثرت ردحا من الزمن. وهو الأمر الذي لم تفلح في تحقيقه وزارة الخارجية المنوط بها ذلك، وبصرف النظر عن مؤهلاته العلمية المختلف حولها، فان الرجل لم يعرف من قبل بان له اى نشاط سياسي أو غيره بما يؤهله للعب ذلك الدور الكبير، ولكنه فعل، فما الذي مكنه من إقناع تلك الدول بالعودة إلى إصلاح علاقاتها مع السودان يا ترى؟ وللمزيد من الدهشة، فان الفريق طه يعلن عن دوره الذي لعبه في عملية رقع العقوبات جزئيا عن السودان، ومرة أخرى يقف سيادته ندا لوزارة الخارجية إن لم يتقدمها إذ افلح كفرد في تحقيق ما اجتهدت في تحقيقه كوزارة، فنتساءل عن ما هي الطرق والوسائل التي يستخدمها هذا الرجل ليصل إلى كل غاياته؟ فان كان ذلك ممكنا ويسيرا مع الدول العربية، فكيف له فعل ذلك مع الولاياتالمتحدة الأمريكية؟ فقد افلح الرجل تماما في أن يجعل من نفسه عين الرئيس التي ترى، وأذنه التي تسمع، بل ويده التي تبطش، وبموجب ذلك الاحتواء الشامل تمكن من تنفيذ كل مخططاته الذاتية وخدمة أهدافه الشخصية. فأصبح قادرا على أن يعز من يريد ويذل من يريد، مما يؤكد تمكين قبضته من إصدار الفرارات الجمهورية التي تكشفت حقائقها أخيرا وبعد مغادرته موقعه، اتضحت في التعيينات لبعض لمواقع القيادية التي يقال بأنها قد تمت بإرادته، ومن ثم دفع المستفيدون من اعتلاء تلك المواقع ثمن اعتلائها بغير وجه حق فأزيحوا عنها.. وفى اتجاه خدمة أهدافه وتطلعاته الخاصة، تحدثت وتتحدث الأسافيير عن فساد للرجل لم يسبقه عليه اى من الفاسدين الذين امتلأت بهم ساحة حكومة الإنقاذ وفاضت. ولعل الاهتمام بالكشف عن فساده الذي بدا منذ حين، استوجبه موقعه برئاسة الجمهورية وقربه من السيد الرئيس الذي ظل رافعا لراية محاربة الفساد الأمر الذي لا يجوز معه مجرد التفكير في ممارسته دعك من الانغماس فيه حد الغرق.. يقال ان الرجل يمتلك عشرات الملايين من الدولارات يحتفظ بها ببعض البنوك الخليجية، وقد تم الكشف عن تلك الأموال وحركتها بأدق التفاصيل والوثائق التي لا تدع مجالا للشك، وفى ذات الوقت الذي تم الكشف فيه عن امتلاكه لعدد من الفلل مليونية الأسعار بمدينة دبي، وفى ارقي الأماكن التي تضم مساكن أثرياء ومشاهير العالم، وان كان هنالك حديث عن امتلاك غيره من بعض من قيادات الإنقاذ لمثل ذات الفلل، إلا أن يمتلك هو عددا منها كما يقال يجعل السؤال عن مصادر التمويل التي توفر له كل ذلك لازما. نعلم أن حكومة الإنقاذ من أكثر الحكومات فسادا على الإطلاق، ومن أكثرها صدحا بمحاربته من جانب ومن جانب آخر أكثرها عملا على تغطيته والتستر عليه، خاصة عندما يتصل بكوادرها وبمنسوبيها. ولكنها ظلت تحاول أن ترضى المواطنين في اتجاه محاربة الفساد فتوصلت إلى صيغة ترضى فأسديها أولا، ومن بعد تهدئة المواطن حيث خرجت ببدعة (التحلل) حتى تقنع المواطن بان (المال تلته ولا كتلته). لكن في حالة الفريق طه فان السلطة قد ضربت رقما قياسيا فى التستر على الفساد وحمايته. فبالرغم من كل الإعلانات الموثقة عن فساد الرجل، غضت السلطة الطرف عن كل ذلك، ولم تقدم على مجرد مساءلته عما يشاع عنه كما تفعل بالآخرين، بل سمحت له بمغادرة البلاد ومن ثم أغلقت باب المساءلة جملة وتفصيلا. فهل يعنى ذلك تبرئته من كل ما يقال عنه أم أن الحكومة تخشى فتح ذلك الباب الذي قد تهب عبره أعاصير فساد لا ترغب في كشفها، أم ماذا؟ ومهما كان فان السماح للرجل بمغادرة البلاد دون مسائلته عما اغتصب من أموال المواطنين يعنى إعفائه من ذلك والسماح له بان يستمتع بما اغتصب، فما الذي جعل فساده مقبولا ومسموحا وفساد الآخرين خاصة أولئك ممن لا ظهر لهم، مفضوحا ومقبوحا ومشهرا به؟ وهل من حق السلطة ان تعفى حقوق المواطنين نيابة عنهم؟ فان كانت الأموال التي قيل أن الرجل قد اغتصبها حقيقة، فان صمت السلطة عليها وغنغنها تعتبر دعوة جديدة وصريحة لكي تستمر عملية نهب أموال الشعب التي لم تتوقف. وبهذا السلوك ضربت السلطة أسوا مثال لحماية الفساد؟ ما يدهش أن السلطة وبعد أن مكنت للفريق طه من مغادرة البلاد والوصول إلى مقصده سالما عادت لتطعن في ظله، فقد جاء بالأخبار أن السلطات الأمنية قد اعتقلت مدير بنك الخليج، الذي يقال أن له صلة وثيقة بالفريق طه، كما وان هنالك شراكة بينهما في بنك الخليج تمثلت في امتلاكهما معا ما نسبته 25% من رأس مال البنك. فما الذي اعفي طه وهو الأصل، من نصيبه في الاعتقال والمساءلة وحصرها في شريكه وحده؟ وإذا أضفنا لكل ذلك الحديث عن إعفاء محافظ بنك السودان المركزي، بسبب علاقته وقربه من طه، الذي قيل بأنه هو الذي مكنه من الصعود إلى ذلك الموقع، فما دامت السلطة الحاكمة قد جعلت من مجرد العلاقة الحميمة مع طه جريمة يعاقب عليها فاعلها، فما الذي يجعل طه مبرأ من الجرم الذي يلحقه بالآخرين، فيسمح له بان يغادر البلاد حرا طليقا بينما يدفع الآخرون ثمن القرب منه اعتقالا او إعفاء من مناصبهم؟ أخيرا، من هو طه ومن يستطع كشف حقيقته، كيف وصل الى ردهات القصر الجمهوري ولم ابعد منها؟ [email protected]