بعد يوم واحد من مقتل أسامة بن لادن، في أيار (مايو) الماضي، جمعتني مائدة العشاء في روما مع عدد من الصحافيين من الولاياتالمتحدة وكندا وإيرلندا والدنمارك. لم يحدث طيلة النقاش، الذي امتد لساعات، أن أشار أي منا لا من قريب ولا من بعيد إلى مقتل بن لادن. بل تركز الحديث كله على الثورات الشعبية العربية: دور المرأة في الثورة ومستقبلها بعدها؛ هل يقاس طول الفترة، أو الحالة، الانتقالية بين ثقافتين سياسيتين بالأعوام أم العقود؛ مدى استعداد الأحزاب ذات الخلفية الدينية للالتزام بمبادىء الحرية الفردية والتداول على السلطة؛ آفاق نشوء إعلام مستقل عن جميع السلطات وقوى الضغط، الخ. ثم تطرق النقاش إلى توصيف شخصيات الطغاة العرب والمقارنة بينهم والتفكه بنوادرهم. قالت الصحافية الكندية: 'أنا موافقة من حيث المبدأ على قيام حلف شمال الأطلسي بتأمين غطاء جوي للثوار الليبيين. أولا، لأن من الأكيد أنه لو لم يتدخل الناتو لكان القذافي نفذ وعيده بالزحف على بنغازي وتدميرها وتقتيل أهلها. وثانيا، لأن ميزان القوى غير متكافىء على الإطلاق بين أنظمة همجية مدججة بالسلاح ومستعدة لتنفيذ سياسة الأرض المحروقة (فقد تحدث القذافي منذ أول خطاب بعد اندلاع الثورة عن إحراق ليبيا بأسرها) وبين شعوب مقهورة، مسالمة وعزلاء إلا من إرادة التغيير. لكن رغم ذلك فإني أشعر بالانقباض عندما أسمع بمقتل المدنيين بسبب قصف الناتو. لقد كان بين الضحايا حفيدة للقذافي، أليس كذلك؟' قلت: 'نعم. لقد قال النظام إن حفيد القذافي قتل جراء القصف. لكن ليس هنالك من سبيل للتأكد من صحة هذا الزعم. ألم يقل القذافي عام 1986 إن القصف الأمريكي لباب العزيزية (ردا على العملية الإرهابية التي نفذت بأمر منه ضد جنود أمريكييين في برلين) أدى إلى مقتل ابنته بالتبني التي لم يكن عمرها يتجاوز آنذاك عاما واحدا؟ ألم يدأب منذئذ على التذكير بهذه الشهيدة الصغيرة بمناسبة وبغير مناسبة؟ ألم يقل عام 2003 بعد أن تبين له أن لا مناص من دفع تعويضات لعائلات ضحايا لوكربي: 'من ذا الذي سيدفع تعويضات عن ابنة القذافي، وكم سيدفع؟ إذا كان الأمريكي البسيط يساوي 10 ملايين دولار، فهذا يعني أن ابنتي تساوي المليارات؟' سأل أحدهم: 'أليس صحيحا أن ابنة القذافي قتلت في القصف الأمريكي عام 1986؟' قلت إنه ليس عندي دليل لا على صحة الزعم ولا على بطلانه، لكني لم أصدق القذافي لا عام 1986 ولا بعد ذلك. بل إنه كلما تباكى، خاصة في مقابلاته مع وسائل الإعلام الغربية، على ابنته 'الشهيدة' ازددت يقينا أنه كاذب. وكم كنت أعجب، عام 1986، من زملائي من الطلبة الذين كانوا يصدقون مزاعم القذافي في هذا الشأن أو في سواه. على أني أذكر أن غضب الطلبة قد تركز آنذاك على النظام التونسي بسبب عدم تنديده بالقصف الأمريكي. حيث كان موقف بورقيبة يتلخص في أن القذافي هو البادىء، وأن رونالد ريغان ما كان ليأمر بمهاجمة باب العزيزية لولا عملية القذافي الإرهابية في برلين، ولو لا كثرة 'حركاته' الأخرى التي نصحه بورقيبة، منذ عام 1972، بالكف عنها حتى 'لا تعطيك أمريكا 'طريحة'..' (أو 'علقة' كما يقول أشقاؤنا المصريون). الآن، بعد أن شبعت هناء، ابنة القذافي بالتبني، استشهادا ومقاما في جنات الخلد، ها قد أتانا الدليل على أنها لا تزال حية ترزق! بل إنها طبيبة في السابعة والعشرين من العمر! ويعرف جميع العاملين في المستشفى المركزي في طرابلس أن 'الشهيدة' هناء كانت تأتي كل صباح إلى العمل في سيارة بي ام دبليو سوداء ذات نوافذ حاجبة للرؤية تتبعها دوما سيارتان أخريان. ويقول زملاؤها إنها كانت، بطبيعة الأحوال القذافية المعتادة، هي المدير الفعلي للمستشفى، حيث كان كل شيء تحت تصرفها. وقد لاحظ المراسلون الصحافيون الذين زاروا المستشفى، في أعقاب فرار هناء يوم 20 آب (أغسطس)، أن مكتبها فخم ومجهز بكل معدات الراحة وأن فيه حماما وجناحا للنوم. لكنه لم يكن في المكتبة ولو كتاب أو مرجع طبي واحد... بل مجرد علبة 'كريم' لترطيب البشرة. أما على الطاولة البيضاوية الشكل، فقد كانت هناك أربعة أكياس تحتوي بالونات خضراء... حيث كانت، كما قال أحد زملائها الأطباء، 'تظن أن الاحتفالات سوف تقام بمناسبة انتصار' أبيها على 'الجرذان' و'الصليبيين'. لقد كانت هناء، طيلة أعوام، أجدر بنت (غير موجودة) بأساطير أبيها. وها هي قد صارت، منذ أيام، أصدق شاهد على مذهب أبيها في الشرف والمصداقية. القدس العربي