البحث عن معالم الآثار والكنوز السودانية وملامح الذين صنعوها وصاغوها لن يكتمل إذا لم تصطدم وتستمع لحكايات ومنجزات إنسان تمثّلت فيه خلاصة الحضارات القديمة من قيم وسلوك وإبداع واتخذه الكثيرون رمزية للحب والحسن والسلام والنضال، هو لا يقل دلالة واستفادة من النيل والإهرامات والمعابد، متحف قائم بذاته يسمى محمد الحسن سالم حميد. ذلك الشاعر الوريف الذي نظم الحروف كالبنيان المرصوص للدفاع عن المهمشين والتعابى، ونثرها كالعبق في مدح الحبيبة والوطن.. في شمال السودان وعلى قرية صغيرة يطلق عليها (نوري) كانت صرخة الميلاد الأولى وسط بيئة وطبيعة لا تخلو من قسوة رغم تمايلات النخيل وانسياب النيل الذي بدوره يصنع حياة مخضرة محدودة على ضفافه بالكاد توصل سكان القرية البسطاء إلى حدود الكفاف في تلك الأجواء كانت نشأة حميد الأولى قبل أن ينتقل إلى مدينة عطبرة التي تلقى فيها جزء من تعليمه الأكاديمي وشهدت أيضاً بدايات حياته العملية وكانت عطبرة في تلك الفترة مدينة تضج بحركة ثقافية ضخمة أثّرت فيه وساهمت بصورة كبيرة في فهمه للواقع السوداني، بورتسودان أيضاً من المدن التي عاش فيها حميد قبل أن يلتحق بركب المهاجرين إلى المملكة العربية السعودية، ثم يعود من جديد إلى نوري وهو ينشد: أنا ماشي… راجع… لي بيُوت تفتح لي.. أدُق أو ما أدُق من غير تقول.. الزول منو ولا حتى.. علّ الداعي خير لا مالك.. الجابك شنو مدينة الخرطوم بكل غوايتها وحراكها الصاخب لم تستهويه فاختار أن يبتعد عنها رغم العروض الكبيرة التي غازله بها البعض للسكن فيها، كانت الخرطوم عنده دائماً مسار أو رمزية للتباكي عليها باعتبارها الوطن الكبير فتجده يهتف بأعلى صوته: أنا مأزوم.. مأزوم.. مأزوم يا خرطوم وينك وينك يا خرطوم شن شبّ وقلبك وسلبك حلبك؟ زنجك؟ بجتك؟ نوبتك؟ عربك؟ أنا مأزوم.. مأزوم.. مأزوم حميد الإنسان كما يروى عنه كان انعكاس مطابق لكل ما قاله شعراً من مبادئ وأخلاق وتجسدت فيه صفات الزاهدين الذين امتلكوا وتركوا لا الذين ابتعدوا حين لم يجدوا، استطاع حميد أن يخلق إلفة بينه وبين كل من التقى به فهو بسيط متواضع في صفات كثيرة تشبه سمات المتصوفة وقيم اليسار، كرّس حياته لقضاء حوائج الناس الذين حوله ينفق كل ما عنده ويسعى بعد ذلك لحث الآخرين ويهرب من مهرجانات التكريم؟ مسرح الشعر: النص عند حميد عبارة عن مسرح بجميع تفاصيله (الأبطال، الخونة، المشاهد، الديكور ووصف الأجواء)، النصوص كانت قصص وروايات متسلسلة بطريقة جاذبة تذكر تفاصيل التفاصيل مثل: (عم عبد الرحيم، الجابرية، حمتو، مصابيح السما التامنة… إلخ)، القصائد دون التوغل في موضوعاتها احتشدت بصور شعرية وبلاغية كثيرة ومدهشة يوصف مثلاً مستخدماً كلمات من الوهلة الأولى قد تفسر في خانة الذم ولكن سرعان ما تكتشف أنها مدح مثلاً يقول في إحدى قصائده: بالذات الزيك لو جاء راغب دغريتو العرجاء دايماً غلباوي وغالاط لخباط للعيشة الخمجاء مجموع شعر حميد ينصب في إطار الحكمة فهو يقدم نصاً يطرح القضية أو الحدث يوضح الأسباب والمتسببين والأجمل يقدم فيه الحلول والمعالجات تزخر أيضاً نصوصه بالعديد من الأمثلة التي يصيغها للتوضيح والحث ودائماً كانت تتم بشكل عجيب يقول مثلاً في نصه الرمزي الذي يحكي فيه قصة يوسف والجب: شمشِم واتحسس بأقدامك كل الأحجار ما عِدم الجب قبل إعدامك من عكن أحجار مو قبيلة فار..؟ ولا بد أكيد ساعة تمَّ لا بد طلع من درب ما تَبن بي إيديك كوس الحُجَّار… لابُدْ.. لا بُدْ يوسف سامعني ومابي يرُدْ الوطن والحبيبة…!! الوطن عند حميد كان بمثابة الصك الذي يمنحه كرت العبور إلى بحر الشعر وتطويع الحروف كان ملهمه الأول الذي قاتل وناضل من أجله. ملامح الوطن الذي كان يرتجيه حميد ويتغنى باختصار خال من الحروب وتسوده العداله وفي هذا السياق أخرج العديد من الأناشيد كان آخرها ديوان شعري بعنوان (أرضاً سلاح).. الوطن لدى حميد لم يكن مفصولاً من الشعب فقلما تجده يتغزل في الطبيعة والبيئة دون الإشارة إلى الشعب الذي صدح بأحقية التغني له من دون الالتفات للرقيب وانتظار من يرشده وفي هذا السياق كان مصادماً بدرجة كبيرة فقد قال مثلاً في نص حوى هذه الأبعاد الثلاثية: (الوطن، الشعب، الأحقية).. من حقي أغني لشعبي.. ومن حق الشعب عليّ لا بي إيدك تمنع قلبي.. ولا قلبي كما بإيديّا علمني أغني.. الطين.. المخرطة.. والطورية الناس الصابرة.. سنين بالحالة.. الما دغرية القابضة على الجمرة في إيدا.. والجمرة تلهلب حية لا قادرة الجمرة تقيدا.. لا قادرة تولّع هيّ الكثيرون يعتقدون أن الحبيبة في شعر حميد غيابها أو حضورها لم يكن بالقدر المطلوب رغم أن هذا القول في أحد جوانبه قد يكون إيجابياً لصالحه باعتبار أنه شغلته قضايا الوطن والناس عن قضاياها الشخصية ولكن هذا القول لا يتسق ويتفق مع الحقائق فالشاعر قدم أغنيات ونصوص غزلية مرهفة في غاية الامتاع مثلاً يقول في نص: لو بالمحبة حباب ابن الملوح أنا.. لو بالنغم زرياب وما خلى.. فيك غُنا.. لو بالعلم دا كتاب مفتوح لك ألف سنة.. لو بالضرب دي حُراب عنتر مدارقو هنا.. لو بالرسم جذاب عند أمو كل جنا.. لو مو الشمس كضاب البدر يضوي سنا.. لو بالقرش وين جاب وما جاب براهو هنا.. لله كم خطاب تتمنى حالو مُنى.. يا بت بلا استغراب تكشحلي جور وضنَا.. وأنا أجدر الخُطّاب وأكثر قلوبه عنا.. راجيك تقولي حباب يا.. ريدتي هاك كفنه.. فالدنيا دون أحباب غيمة.. الضباب دفنها.. أخيراً: وفاة الشاعر محمد الحسن سالم حميد كانت من أفجع الفواجع التي أصابت الكثيرين وفاضت المقل ودفقت دموعها التي ما زال اندفاعها يسيل كلما أتت الذكرى، فحميد شخص بقامة نخلة وبحلم إنسان متعافي حاول من خلال إبداعه التعبير عن (المُهمّشين، فارشي الأرصفة، الغلابة، عمال المدن، كلات الموانئ، الغبش، التعابى، بحارة السفن، حشاشة القصوب، لقاطة القطن، الجالبة الحُبال، الفِطن الفرن، الشغلانتو نار والجو كيف سُخن). لم يلهي حميد الغاوون ولم يتوقف عند سفاسف الأمور والتعذيبات والسجون ظلّ مواصلاً في إبداعه ومخلصاً لشعبه الذي انتمى إليه (تنظيماً) واتخذ من قضاياه ومن اشكالاته ملهماً لشعره وفنه.. حميد رحل بجسده ولكنه سيظل موجوداً بأقواله وأفكاره وإبداعه الغني بالتفاصيل الثورية والصور والقيم الإنسانية.. ياتو وطن في الكون الواسع دون عينيك راح يبقى وطن.. وياتو سكن في الدنيا الغنوة دون عينيك راح يبقى سكن.. ياتو شمس راح تشرق تطلع لو عينيك بالدمعة بكن.. وقام منديلك.. غازل خدك غطى عيونك.. غصباً عنك هاج منديلك.. أُغمى عليهو.. وقع من إيدك ومن الدهشة الفيهو رطن.. ياتو وطن؟؟