يعاني السودان من حال عدم استقرار منذ سبعة أشهر متواصلة هي الفترة بين بداية الحراك الجماهيري ضد الرئيس المخلوع عمر البشير والفشل الحالي في تشكيل حكومة تخلف النظام السابق بعد حدوث التغيير. ويضج المشهد السياسي حاليا بحالات من الاستقطاب والشد والجذب بين مكونات قوى الحرية والتغيير التي قادت حملة الإطاحة بالبشير من جهة، والمجلس العسكري الانتقالي الذي يعد شريكا لها في اكتمال الثورة وإنهاء النظام السابق، من جهة أخرى. على مستوى الجيش، تم الإعلان في الأسبوع الماضي عن محاولة إنقلابية من بقايا الحركة الإسلامية ونظام المؤتمر الوطني الذي كان يحكم البلاد طوال ثلاثين عاما، وهي المحاولة الخامسة خلال شهرين، وألقي القبض على جنرالات كبار في الجيش وجهاز الأمن وعدد من قادة الحركة الإسلامية وحزب المؤتمرالوطني وهم الآن رهن التحقيق. ووفقا لبيان صادر عن رئيس هيئة الأركان (المكلف) فقد أُعلن عن عدد من الأسماء التي شاركت في التخطيط "وعلى رأسهم الفريق أول ركن هاشم عبد المطلب، رئيس الأركان المشتركة وعدد من ضباط القوات المسلحة وجهاز الأمن والمخابرات الوطني برتب رفيعة بجانب قيادات من الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني البائد وتم التحفظ عليهم وجاري التحقيق معهم لمحاكمتهم". وحسب مراقبين فإن هذه المحاولة الانقلابية، هي الوحيدة من المحاولات التي أعلنت سابقا، التي وجدت تصديقا وقبولا من الشارع، حيث تم فيها إعلان أسماء والقبض عليهم وكلهم من رموز نظام البشير، واعتبر الكثيرون أن هذا الإجراء يمثل البداية الحقيقية للثورة ضد الإسلاميين. وسارعت الحركة الإسلامية لتبرئة نفسها عبر بيانين أشارت من خلالهما إلى أنها "أصبحت شماعة يعلق عليها القصور والأخطاء وقد نسب في بيان صادر من المجلس العسكري اتهام لبعض من قادتها بالمشاركة في محاولة انقلابية، الأمر الذي لا يتفق ورؤية الحركة لأهمية الاستقرار والوفاق في هذه المرحلة". وألمحت الحركة الإسلامية إلى أن ما حدث هو تصفيات حسابات بين قادة الجيش وأضافت "على المجلس العسكري حل خلافاته وتسويتها بعيدا عن الحركة الإسلامية التي تتمسك تمسكا تاما بأمن هذه البلاد واستقرارها والذي قدمنا في سبيله المهج والأرواح، وأخيرا فإننا أبناء السجون والمعتقلات التي لا تزيدنا إلا إيماناً وتمسكاً بقيمنا ومبادئنا". وعلى صعيد قوى الحرية والتغيير تم في الأسبوع الماضي اتفاق بين الجبهة الثورية التي تضم أربع حركات مسلحة وبين المكون المدني في قوى الحرية والتغيير وكان العنوان العريض لهذا الاتفاق هو الإسراع في تكوين الحكومة المدنية. ووفقا لإعلان أديس أبابا بين الطرفين فقد "ناقش هذا الاتفاق قضايا الحرب والسلام الجوهرية وجذور المشكلة السودانية وتهدف عبره قوى الحرية والتغيير إلى فتح الطريق واسعا من أجل الوصول إلى اتفاق سلام شامل مع كافة حركات الكفاح المسلح". وعلى صعيد متصل، أعلن نائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو، في لقاء عام أنهم على تواصل مع الحركات المسلحة التي لا تنضم إلى قوى الحرية والتغيير وفي مقدمتها حركة عبد الواحد محمد نور التي تقاتل في دارفور وحركة عبد العزيز الحلو في جبال النوبة. وينتظر السودانيون بدءا من السبت، إنخراط شريكي الثورة في المفاوضات التي توقفت قبل أسبوعين بعد أن تم التوصل لاتفاق سياسي وتبقى الاتفاق على وثيقة دستورية يتم من خلالها وضع الأسس لإدارة الفترة الانتقالية بشكل قانوني ليتم من بعده تشكيل المجلس السيادي المختلط والحكومة المدنية التي تنفرد بتشكيلها قوى الحرية والتغيير. ويرى الكاتب والمحلل السياسي الجميل الفاضل، أن ما حدث في الفترة الماضية بين قوى الحرية والمجلس العسكري هو عبارة عن وهن عام وضعف في تقييم المواقف. ويرجع السبب في ذلك إلى المناخ العام الذي أوجده نظام البشير خلال الثلاثين عاما الماضية في كل مفاصل الحياة في السودان. ويقول ل"القدس العربي" إن الوسائل المطلوبة لتحقيق التحول المنشود تعاني الكثير من الخلل والتشوهات التي ضربت الحركة الطلابية والنقابات وكل وسائل المقاومة السلمية، من خلال خلق أجسام موالية للنظام وبعيدة عن طموح وقيم الشارع السوداني. مضيفا أن قوى الحرية والتغيير تصدت لمسؤولية كبيرة بعد أن وصلت الأوضاع في البلاد لحد الانفجار، لكن كثيرا من هذه القوى أصبحت تسير في حقل ألغام بسبب التعقيدات التي أفرزها النظام السابق، وما زالت مكوناته تعبث بالواقع على حد تعبيره. ويرى أن المجلس العسكري (إذا افترضنا حسن النية في انحيازه التام للشارع ولثورته) يده مغلولة بسبب وجود طبقات من الدولة العميقة لنظام البشير، خاصة في المؤسسات العسكرية، وعلى هذا الأساس يخلص المصدر إلى أن المخرج هو التخلص من التركة الثقيلة لنظام البشير والحركة الإسلامية التي مارست تدميرا ممنهجا لبنية الدولة والمجتمع. وحسب الجميل الفاضل، أن ما يزيد الوضع تعقيدا هو وجود جناحين من النظام القديم أحدهم أيديولوجي يريد تخريب كل شيء والآخر يرتبط بشبكة مصالح على المستويات الشخصية، وهذا الفصيل ينحاز لمن يرى فيه المصلحة. ويشير إلى أن كلا الطرفين موجود داخل المنظومات العسكرية والمدنية ويعمل وفقا للمصالح التي تخصه. ويقول المحلل السياسي ماهر أبو الجوخ إن الوضع المعقد في السودان مرتبط بشكل أساسي بالتصدعات العميقة طوال ثلاثين عاما والتي أوجدها نظام البشير والتي طالت المكون العسكري والقوى السياسية على حد سواء. ويقول ل"القدس العربي" أن سياسة البشير تجاه المؤسسة العسكرية تتعلق بثلاثة جوانب أولها محاولة إفراغها من مكونها القومي بحيث يكون الجيش مؤسسة حزبية، الثاني هو إضعاف الجيش من خلال استراتيجية تؤدي إلى تفكيك وحداته الرئيسية وتشتيتها خارج العاصمة، أما الجانب الثالث فيتمثل في تكوين مؤسسات عسكرية موازية تقوم طبيعتها على الولاء المطلق للنظام وذلك مثل الدفاع الشعبي وحرس الحدود ثم الدعم السريع. ويشير إلى أن هذه البنية خلقت طبقة من الضباط تمتعوا بامتيازات فائقة ليس بسبب مهنيتهم ولكن بفضل تصنيفهم السياسي، موضحا أن هذه الفئة هي الأكثر تضررا من التغيير الذي حدث بتراجع نفوذها بجانب وجود ارتباطات أيديولوجية تجعلهم يعتبرون ما حدث إقصاء وإنهاء لمشروع بذلوا في سبيله الكثير، وبالتالي فإن هذه الفئة هي مصدر الإزعاج الرئيسي في الجيش. ويربط أبو الجوخ بين التحركات العسكرية المضادة وحدوث تقدم في المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، ويرى أن قطع الطريق على هذا التيار يكمن في التوصل لاتفاق شامل وتشكيل مؤسسات الحكم المدني ومن ثم إعادة هيكلة القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى والحركات المسلحة بهدف الوصول إلى قوات قومية التوجه وذات عقيدة عسكرية موحدة. وحسب المصدر فإن معاناة قوى الحرية والتغيير سببها ثلاثة عقود من التفكيك الشديد للقوى السياسية من قبل نظام البشير، مضيفا أن القوى المعارضة لديها تجارب كثيرة مشتركة انتهت إلى الفشل بحيث يتم اختلاق مشاكل داخلها بها بسبب عدم الثقة والمطامع والمخاوف، وهذا حسب أبو الجوخ، يؤدي لوجود خلافات داخلية فيما بينها كلما اقترب توقيع اتفاق. ويرى ماهر أن أحداث الأسبوع الماضي والمتمثلة في التوصل لاتفاق بين المكونين المدني والعسكري لقوى الحرية والتغيير وقيام المجلس العسكري بخطوات كبيرة وواضحة في تفكيك نظام الإسلاميين، تجعل الطريق ممهدا لشراكة حقيقية بين الطرفين والبدء في تشكيل الحكومة الانتقالية التي تمثل تطورا كبيرا في طريق الدولة المدنية في السودان.