لم يجد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بدا من العودة إلى منصة المؤتمر الصحفي بعد أن غادرها بلحظات، ليسمع شكوى صحفي تعرض وزملاءه للضرب والتنكيل على يد عناصر أمنية في مطار الخرطوم بعد تمسكهم بأحقية حضور تصريحات رئيس الوزراء العائد من فرنساونيويورك. والشاهد أن حادثة مطار الخرطوم لم تكن الأولى باعتراض عمل الصحفيين، فقبلها بأيام تعرض فريق قناة "الحرة" العامل بالخرطوم لمضايقات من مسؤولين أمنيين اعترضوا مصوري القناة أثناء توثيقهم مشاهد حول أزمة الوقود التي تضرب العاصمة السودانية، واقتيد فريق العمل إلى أحد مقار الشرطة وجرى مسح الصور بعد احتجازهم بعض الوقت، وهي الحادثة التي دفعت بوزير الإعلام فيصل محمد صالح إلى تقديم اعتذار رسمي لمكتب القناة مع الوعد بالتحقيق فيها. ولأن تلك الحادثة كانت لافتة في ظل حكومة الفترة الانتقالية التي تعهدت منذ أيامها الأولى بتقدير دور الإعلام، فإن حمدوك أنصت باهتمام لشكوى ومطالبة الصحفي أحمد يونس -وهو مراسل لصحيفة (الشرق الأوسط)- بالاعتذار الصريح له ولزملائه من واقع حديثه في نيويورك ووعوده بأن الصحفيين في السودان لن يتعرضوا للقمع والسجن، فلم يتردد رئيس الوزراء في القول "نعتذر بأشد العبارات لما حصل ونحن في بداية عهد استعادة الديمقراطية، وهذا طريق صعب أعتقد أننا معا نستطيع معالجته". كما تحدث عن أن الأمر سيخضع للتحقيق، معطيا في الوقت ذاته الصحفيين الحق في الشروع بأي إجراءات تجاه المعتدين. وأرسل رئيس الوزراء إشارات إلى أن الأجهزة التي ظلت تعمل لفترة طويلة من الزمن في ظل مناخ مختلف لا يتوقع منها أن تتغير بين ليلة وضحاها. ومن الواضح أن حموك كان يومئ لحظتها إلى العناصر الأمنية التي اعترضت الصحفيين في صالة كبار الزوار وقابلتهم باعتداء جسدي مفرط لمنعهم من تغطية المؤتمر الصحفي لرئيس الوزراء وجرى تصوير المشهد المسيء في مقطع فيديو، وزع على نطاق واسع ولقي موجة غضب عارمة، وسط مجتمع الإعلاميين السودانيين. مسؤولية الروبي لكن ثمة من يحمّل المستشارة الإعلامية لرئيس الوزراء داليا الروبي مسؤولية التطورات غير المتوقعة بعد تحديدها مؤسسات إعلامية بعينها للتغطية وتسليم مسؤولي الأمن في صالة كبار الزوار قائمة بمن يفترض دخولهم ليصطدم عدد كبير من الصحفيين بعدم وجود أسمائهم وبالتالي الاشتباك مع مسؤولي الأمن. وفي توضيح لاحق لم تنفِ الروبي تحديدها جهات بعينها لتغطية تصريحات رئيس الوزراء تحت ذريعة ضيق مساحة القاعة وعدم احتمالها أكثر من أربعين شخصا، مؤكدة أنه تم السماح لكل من وصل بالمشاركة في المؤتمر الصحفي. وأبدت المسؤولة أسفها لتداعيات الأحداث وما تلاها من ردود أفعال غاضبة، قائلة "أشارك حامليها ذات المشاعر، فيجب ألا تمتد يد بطش على أي مواطن كان، ناهيك عن حملة الأقلام ورسل حرية التعبير ممن يجب أن يحصنوا ضد أجهزة القمع وتكميم الأفواه التي ودعت البلاد عهدها مع رحيل نظام الطاغية المخلوع". كما أكدت أن الاعتداء الجسدي على أي شخص "فعل بشع ومرفوض" ويجب أن يحاسب ويعاقب من ارتكبه وبسرعة وألا يحدث أي تهاون في التعامل مع القضية وتابعت "قد بدأنا فعليا التحقيق في الحادثة". قلق من المستقبل ويرى نقيب الصحفيين السودانيين الصادق الرزيقي أن الأزمة الناشبة بين الصحافة والحكومة الانتقالية تأخذ بعدين أحدهما مهني والآخر سياسي، ويشرح للجزيرة نت أن خبرة القائمين على ملف الإعلام في مجلس الوزراء ضئيلة لا تتناسب مع متطلبات المرحلة خاصة أن الممسكين بملف الإعلام بينهم مستشارة رئيس الوزراء، من خارج الوسط الإعلامي وبالتالي لا تستطيع العمل والتعاطي مع ملفاته. وأضاف "لذلك توجد دوما نظرة من التشكك وعدم الاطمئنان للصحافة خاصة وأن بعضا من الاتهامات أطلقها وزير الإعلام حين قال إن غالب الصحف معادية للثورة، وهو ما جعل الصحفيين غير مرغوب فيهم من قبل مجلس الوزراء". ويشير الرزيقي إلى أن هذا الوضع يبعث على القلق حيال مستقبل العلاقة بين الصحافة وتركيبة الحكم ويجعلها تتسم بتعقيد كبير. ويرفض نقيب الصحفيين بشدة اتهام أصابع في النظام القائم بتوتير العلاقات بين الصحف ومؤسسات الحكومة الانتقالية، مستندا إلى حادثة المطار بتأكيد أن الأفعال والتصريحات كان مصدرها مستشارة رئيس الوزراء، لذلك فالاتهام مصوب حيال ما حدث إلى المنظومة السياسية التي ينتمي إليها رئيس الوزراء. ويلفت الرزيقي إلى أن المشكلة الثانية في العلاقة بين الصحافة والحاكمين تتمثل في أن تركيبة الحكم تتألف غالبيتها من قوى سياسية يسارية لا تؤمن بحرية الصحافة والرأي الآخر ولها تجارب في ذلك يعلمها الجميع، وهو ما يجعل التخوف قائما بشأن لجوء الحكومة لرفع عصاها الغليظة بوجه الإعلام أو أن تعمد إلى تصنيفات أو تعيد الإجراءات الاستثنائية ضد الصحف. ويحاول الرزيقي الفصل بين حمدوك وما قدمه من اعتذار وتعهدات بشأن حماية الصحافة والحرص على حرية الاعلام بتأكيد أن مسلكه مبني على وضعه بوصفه شخصا مدنيا قادما من أروقة الأممالمتحدة ويتحلى بوعي وواقعية ويدرك مدى حساسية الإعلام، ويستدرك "لكننا لا نتحدث عن شخص إنما عن منظومة سياسية". أسس جديدة من جهتها، دانت شبكة الصحفيين السودانيين وهي الكيان الموازي للنقابة في المعارضة، الاعتداء على الصحفيين من السلطات أثناء أدائهم واجبهم. ورأت في بيان أن الاعتداء عليهم يشير بجلاء إلى أن "عقلية النظام البائد في التعامل مع الصحفيين ما زالت هي التي تسيّر مكتب رئيس الوزراء". وأضافت "إذ تثمن الشبكة عاليا اعتذار رئيس الوزراء ووزير الإعلام للزملاء المعتدى عليهم، إلا أنها تؤكد أن الضربات المهينة التي تلقتها أجساد الزملاء من أفراد الأمن أوجعت سائر الجسد الصحفي ما يستدعي فتح تحقيق شفاف حول الواقعة ومحاسبة مرتكبيها، وفقا للوائح والقوانين وبما يعيد لزملائنا حقهم كاملا دون نقصان". كما دعت الشبكة مجلس الوزراء إلى وضع أسس جديدة في التعامل مع وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، تقطع الآلية الانتقائية البغيضة التي درج عليها النظام السابق في التعامل مع فعاليات مؤسسات الحكومة، باعتبار أن حضورها تشريف لا حق لجميع الصحفيين، بما يرسخ لحرية الحصول على المعلومة. توجيهات بالحماية وبالفعل أصدر رئيس الوزراء السوداني مساء أمس الأربعاء توجيهات، للجهات الأمنية والوزارات باتخاذ تدابير تحول دون التعرض لأي صحفي أثناء ممارسة عمله. وقال وزير الإعلام فيصل محمد صالح -في مؤتمر صحفي- إن حمدوك تعرض بالنقاش لما حدث مع بعض الصحفيين الثلاثاء بمطار الخرطوم أثناء عودته للبلاد، وما حدث قبل ذلك. ونقل الوزير عن حمدوك تأكيدات جديدة بالتزام الحكومة السودانية بحماية الحريات الصحفية، كما وجه الأجهزة المعنية والوزارات ذات الصلة بالأجهزة الأمنية لاتخاذ تدابير وإجراءات للتأكد من عدم تكرار مثل هذه الأحداث مستقبلا وعدم التعرض لأي صحفي أثناء أداء واجبه. وأضاف "نؤكد التزام الحكومة السودانية أمام شعبها وأمام العالم، أنها ستراعي الحريات الصحفية وتضمن سلامة وأمن الصحفيين أثناء ممارستهم مهنتهم" الجزيرة