قال محامي المجرم عمر حسن احمد البشير ان موكله يشتكي من رائحة الزنزانة وسوء التكييف بدأ المساء يرخي سدله ويرسل الليل خيوط الستر ليعلن بدايات الهمس والنجوى ويفتح الباب للمتاح من المباح. كنت وقتها في داخلية التاكا بمجمع الكليات الهندسية بجامعة السودان وذلك في منتصف العام 1996م. جاءني منادي ينبئني ان زميلا لي يطلبني ولم يحدد لي من هو… نزلت الدرج من الطابق الثاني وما بنفسي سوى تساؤلات حذرة عن هوية الزائر… لمحت من بعيد طيفا نحيلا يميل الى الطول يظهره بعض الضوء الخافت المتسلل من اضاءة بخيلة تجود بها على استحياء بعض فوانيس الداخلية… اقتربت منه متفحصا فاذا بي امام الصديق الوريف الصادق حمد أحد أبرز ركائز طلاب حزب الامة القومي بجامعة السودان وواحدا من نوابغ القاعات فيها … مصادما ومنافحا ومقاتلا من الطراز الاول… وهادئا هدوءا استثنائيا فريد. ليس من السهل ان تتوغل في دواخل الصادق حمد… كما انه ليس عصيا على صدور الرجال… كان الصادق يتجول بعقله في وسائل المواجهة المباشرة ويتلمس الخطى نحو فعل مفاجئ يقصم ظهر النظام… لم يكن الدافع الشخصي للصادق هو نفس الدوافع العامة… اذ للرجل اسبابا اخرى تضاف لقوائم منطلقات معارضة النظام. تناولنا الخيارات والوسائل وامكانيات المواجهة… وتناولنا الدوافع وتواريخ محاولاتنا في المرحلة الثانوية واسباب نجاحها … كنا نتلمس السبل نحو التفاصيل الدقيقة بحثا عن عوامل النجاح واسباب الفشل. …….. في العام 1994 كان الصادق بداخلية مدرسة خور طقت الثانوية… وهو العام الذي اجهضت فيه الانقاذ (فلسفة) داخليات المدارس الثانوية واسقطت فيه الوجبات من تلاميذ الداخليات في خطوة اجرامية وانتقامية تهدف الى تجفيفها وتحطيم تلاميذها والتبشيع بهم… والمعلوم ان طلاب الداخليات هم في الأساس التلاميذ والطلاب المنحدرين من الارياف ممن تتعذر امكانية تنقلاتهم اليومية بين زويهم ومدارسهم… وكانت الداخليات قبلة من لا قبلة له… بل كانت مميزة بوجبات مدروسة وبيئة مهيأة صاغها عباقرة مختصون في مجال بيئة الطلاب واعمارهم ومكوناتهم النفسية والاجتماعية… والمؤسف ان قرار اسقاط الوجبات بالداخليات تقرر وتم تنفيذه في الثلث الثالث من العام الدراسي وهو بالتحديد الفترة التي تسبق الامتحانات بحوالي شهرين فقط مما يؤثر سلبا على تحصيل التلاميذ والطلاب ويخلق بلبلة لكل الاسر… والقرار في مجمله كان استهدافا لشريحة الفقراء كما انه كان حربا مغلفة ضد المجتمعات الريفية الفقيرة. قررنا في رفاعة مقاومة القرار ولم نكن من طلاب الداخليات حيث كنا من الطلاب الخارجيين … وكانت اول خطوة لنا هي جلب طعامنا من بيوتنا وتناوله في الداخليات مع زملائنا في المدرسة… ومن ثم استطعنا بعد تخطيط مدروس تحريك الشارع انطلاقا من المدارس في موجات متباعدة من المظاهرات. في الوقت الذي تم اعتقالي فيه في رفاعة تم اعتقال الصادق حمد في مدينة الابيض وفي نفس الفترة ونفس التوقيت. تحرك الطلاب من داخلية مدرسة خور طقت ودخلوا سوق المدينة واغلقوا الشوارع بعربات الكارو التي تم ربط بعضها بالبعض… كانت المظاهرات قوية للغاية وانتهت بحملة اعتقالات طالت العديد من الطلاب ومن ضمنهم الصادق حمد نفسه والذي كانت حينها ابرز المخططين والمنفذين لها… وظل الصادق بالزنزانة لمدة بلغت الستة شهور وانتهت فترة اعتقاله باطلاق سراح مشروط ومن ضمن شروطه ألا يدخل منطقته ولا يزور قريته مطلقا. في احد الايام دخل ضابط امن برتبة نقيب الى الزنزانة التي كان يتواجد بها الصادق وزميل له من الطلاب… وبدأ الضابط في كيل الاساءات والتجريح للطادق وزميله وطالت اساءته لهما حتى بلغت حد الشتائم المتبادلة والتلاسن بقبيح الخصال… وفي لحظة طيش وبطش واستبداد اخرج الضابط مسدسه واطلق رصاصة في رأس الطالب المعتقل… تناثرت دماغه كما تطاير دمه في ارجاء الزنزانة واحتوى الصادق زميله وضم اليه جثمانه النازف… امتلأت ملابس الصادق بالدماء وبقايا الدماغ والجمجمة وجلس محتضنا الجثة قبل ان يقتلعوها منه. أيها السادة : ان ملابس الصادق حمد لا زالت موجودة ودماء زميله لم تغسل حتى الان. أيها السادة : ان المدعو عمر البشير يشتكي من رائحة الزنزانة وسوء التكييف.